Author

تحولات ومعادلات مثيرة تفرزها الحرب في أوروبا

|
أستاذ جامعي ـ السويد
الحرب في أوروبا تدخل شهرها الرابع دون ضوء في نهاية نفقها المعتم. أشهر ثلاثة ليست طويلة إن أخذنا التاريخ المعاصر للحروب في قارة أوروبا. بيد أن الزمان والمكان اليوم مختلفان، ويبدو أن كل يوم يمر على هذه الحرب قد تلحقه تباعات عام مما كانت تلحقه أي حرب أخرى على أرض هذه القارة في السابق.
وإن كان تأثير الحروب في الماضي لا يعدو جغرافية المتحاربين، فإن الحرب الدائرة الآن في طريقها إلى تغيير مسالك التجارة والمعادلات بين الدول والأقطاب وسريان سلاسل توريد السلع والتعاملات النقدية والملكية بشتى أصنافها، وكذلك النظرة إلى التعامل مع الأصول والاحتياطيات النقدية.
قد نحتاج إلى زمن طويل وعشرات المقالات لإلقاء بعض الضوء على ما صارت تفرزه هذه الحرب من معادلات وتحولات في مسار التجارة بين الأمم والتحولات والمعادلات المتجددة والمميزة تقريبا في كل ما يتعلق بالاقتصاد في العالم.
سأكلف نفسي وسعها للقيام بهذه المهمة خدمة لقراء "الاقتصادية" في المقبل من الأيام، إلا أنني ارتأيت التركيز على الملكية التي يستثمرها الأفراد والدول في الغرب إما بغية تحقيق مكاسب وأرباح مالية أو درءا لأيام صعاب أو خدمة للتجارة مع هذه الدول أو بحثا عن أمان ومستقبل مضمون.
الحرب في أوروبا أظهرت أن الغرب قد يذهب أبعد مما يمكن تصوره في استخدام سلطته وماله وقوته الصناعية والتجارية، خصوصا تحكمه في التحولات النقدية، تقريبا كل التبادل التجاري بين دول العالم يقع بالدولار الأمريكي أو اليورو الأوروبي أو الجنيه الاسترليني أو الين الياباني.
وفي الحقيقة، فإن دول العالم برمتها تدفع أغلب فواتيرها بالدولار الأمريكي، ما منح أمريكا هيمنة لا سابق لها في التاريخ على التجارة الدولية.
والنقد سلعة، والدولار الأمريكي سلعة، ويبدو أن العالم لم يشهد استخدام دولة لسلعة تملكها كسلاح لتمرير سياساتها مثل ما نشاهده حاليا.
وقد ذهبت أمريكا مبلغا كبيرا في إشهار النقد - الدولار - سلاحا ليس في وجه خصوم ضعفاء لا يجارونها عسكريا، بل أنداد عظماء مثل روسيا والصين، اللتين في إمكانهما الدخول في صراع عسكري معها لما تملكانه من قوة وسلاح وجيوش جرارة.
إلا أن الوقوف في وجه التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا شهد معادلات وتحولات لم تكن في الحسبان. العقوبات التي فرضتها أمريكا وحلفاؤها الغربيون على روسيا غير مسبوقة حقا وخطيرة في آن.
والسبب يكمن في أن الدولة التي تستهدفها العقوبات ليست دولة عادية، بل دولة عظمى من الناحية العسكرية، وحتى العظمة العسكرية لم تقف حائلا أمام الولايات المتحدة وحلفائها للمضي قدما في تجميد الأصول والممتلكات الروسية، إضافة إلى احتياطيات البنك المركزي الروسي التي استثمرها في سندات الدول الغربية بقيمة تصل إلى نحو 300 مليار دولار.
والعقوبات ذكية جدا. انظر مثلا كيف أنهم جمدوا هذا المبلغ الكبير مع أرباحه وكيف أن بعض المسؤولين الغربيين دعا علانية إلى مصادرته، لكن في الوقت نفسه سمحوا لروسيا بخدمة ديونها بالعملات الصعبة، محاولة فطنة لإفراغ جيوب موسكو من العملة الصعبة لجعل أمر تمويل حربها في أوكرانيا عسيرا.
وحتى الملكية الخاصة من النقد والعقارات والأصول الأخرى للمواطنين الروس العاديين في الدول الغربية لم تسلم من إجراءات التجميد والمصادرة.
ولم تسلم من هذه الإجراءات الصارمة حتى ما كانت قد أعارته روسيا للدول الغربية. تحدثت الصحافة في الأسابيع الأخيرة عن دول غربية صادرت لوحات فنية روسية ثمينة كانت معارة للظهور في معارض خاصة في أوروبا.
لا حاجة إلى ذكر الأسباب التي تراها الدول الغربية موجبة للقيام بممارسات كهذه. بالنسبة لروسيا ما هي إلا "سرقة"، لكن هل في إمكانها رد الصاع بالمثل؟
اقتصاديا، روسيا ليس في إمكانها مجاراة الدول الغربية في فرض إجراءات مؤلمة مماثلة، حجم الاقتصاد الروسي لا يوازي حجم اقتصاد كوريا الجنوبية. لكن إجراءات مثل هذه تعقد مسألة الوصول إلى حل وسط للأزمة الخطيرة التي تعانيها أوروبا. ومن ثم، فإن هذه الإجراءات ترسل عدة رسائل في أكثر من جهة.
كان الغرب الباحة الآمنة للناس والدول للاستثمار وتكديس الأموال، إلا أن لسان حال كثيرين يقول الآن ما مفاده: إن فعلوا بدولة عسكرية عظمى كروسيا مثل هذا، فما عساهم أن يفعلوا بغيرهم؟.
الامتحان عند الشدائد، وعند الشدائد نستقي الدروس، وأسس هذه الدروس هو أنه عند اشتداد أزمة ما، فإن الدول والحكومات الغربية لا يرف لها جفن إن انتهكت الأسس التي بنيت عليها مجتمعاتها، في الغرب الرأسمالي تعد الملكية العائدة للدول أو الأشخاص، مواطنين كانوا أم أجانب، من المقدسات، والمس بها من المحرمات.
ويبدو أن كل حرام قد يصبح حلالا زلالا لدى الغرب حال اشتداد الأزمة عليه.
إنشرها