Author

الأبرياء بين جدلية الفكر واقتناء السلاح

|
شهدت بلدة يوفالدي في ولاية تكساس الأمريكية، وسط الأسبوع الماضي، حادثة إطلاق نار شنيعة كان مسرحها مدرسة ابتدائية تقبل طلابا أقل من عشرة أعوام، راح ضحية الجريمة 19 طفلا، وبالغان أحدهما مدرس. وفجع المجتمع الأمريكي بالمجزرة المروعة، كما تفاعل الإعلام الأمريكي مع الحادث، وأحدث ردود فعل شفهية قوية من قبل الرئيس جو بايدن، ونائبته، اللذين أشارا إلى أنه يجب التحرك في وجه انفلات اقتناء السلاح، وربما رد الفعل الرسمي هذا مؤقتا، ويفرضه الحادث المفجع لتعود الأمور إلى وضعها الطبيعي، كما كانت من قبل، دون تغيير في صلب أسباب المشكلة.
قبل أيام من حادث المدرسة، تم قتل مجموعة من الأمريكان في "سوبر ماركت"، وموقف سيارات السوق، حين انطلق عنصري لشارع محدد، في منطقة محددة، يغلب على ساكنيها الأمريكان السود، ولتأصل مشاعر العنصرية لديه كان مستعدا بكاميرا، وتجهيزات بث الجريمة على الهواء مباشرة، مع أن له تاريخا عنصريا مكشوفا من قبل على شكل تهديد صريح، وقد يحكم عليه بالسجن مدى الحياة، لكن الحكم لا يحل المشكلة الأساسية.
هل مشكلة قتل الأبرياء حديثة، أو طارئة في أمريكا؟ الجواب بالطبع لا، فالهجوم على المدارس والكنائس والأسواق يتكرر في كل وقت وحين، حتى تحول إلى ظاهرة خطيرة تهدد السلم الأهلي، خاصة استهداف فئة اجتماعية بعينها، كما يحدث في تعامل الشرطة الوحشي المؤدي للقتل لذوي البشرة السوداء.
في سؤال وجهته معلمة لطفل صغير في أمريكا لا يزيد عمره على ثمانية أعوام عن ماذا سيكون في المستقبل؟ أجاب بأنه سيكون قاتلا متأثرا ببرامج، وأفلام العنف التي تصور ممارسات العنف، والقتل بالبطولة، وهذا في حد ذاته مغر لأطفال ينقصهم النضج وقلة الوعي، وعدم إدراك المآلات الناجمة عن عمليات العنف والقتل، عليه وعلى الضحايا وأهلهم.
استوقفني بعض الملاحظات في التغطية الإعلامية للحادثة، إذ ذكرت وسائل الإعلام أن مرتكب الجريمة مراهق يبلغ من العمر 18 عاما، والتركيز على هذه المعلومة له مغزى غير مباشر، وذلك لتصويره بأنه غير ناضج، ولا توجد لديه دوافع عميقة لارتكاب الجريمة، كما أن من الملاحظات بشأن التغطية الإعلامية أن المجرم شاذ جنسيا، وتعرض للتنمر، والتندر عبر وسائل التواصل الاجتماعي عندما وضع المكياج على وجهه للزينة، وما من شك أن مثل هذه المعلومات تخدم تجار السلاح الذين يرون أن اقتناء السلاح ليس سببا لحدوث الجرائم، إنما عوامل أخرى. هذه الجريمة بما ترتب عليها من إزهاق أرواح بريئة، وغيرها من الجرائم التي تتكرر كل يوم في المدن الأمريكية تمثل هزة قوية يفترض أن تحرك المجتمع الأمريكي على المستويين الشعبي والرسمي، لاجتثاث الأسباب التي دفعت المراهق، وغيره من البالغين والبالغات لارتكاب الجرائم بأنواعها، وأبشعها، وما من شك أن الثقافة المكتوبة والمشاهدة، كما تعرض الأفلام والبرامج، تشكل العقول وتثير محفزات الخروج على النظام العام، وانتهاك المحرمات، وتزين القتل وسفك الدم، باعتباره بطولة وإنجازا يحقق للفرد شيئا من الشعور بتحقيق الذات والطموحات، خاصة إذا ارتبطت هذه الأفكار بمشاعر عنصرية نحو عرق أو دين.
مشكلة السلاح في أمريكا لن يحلها قانون تسجيل السلاح باسم مالكه، فالأمر غير كاف لمنع الجريمة، لذا أعتقد أن التربية المنزلية والمدرسية وإعادة تنظيم المحتوى الإعلامي إنتاجا وتوزيعا وبثا كلها أمور مهمة، فالطفل الغض في تفكيره وهو يشاهد فيلم عنف يظهر من يمارس العنف بالبطل، مع ما يصاحب ذلك من هالة في جسمه ومشيته وملامح وجهه، كل هذه مغريات للاقتداء به.
شركات وتجار السلاح مثلهم مثل تجار المخدرات والتبغ لا تهمهم صحة الناس، ولا حياتهم، إنما يهمهم تحقيق المكاسب، وتكديس الأموال في البنوك، حتى لو قتل الأطفال أو تيتموا، أو تمزقت الأسر وتشردت.
إنشرها