Author

عقدة لندن وواشنطن الأيرلندية

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"الكونجرس لن يؤيد اتفاقية تجارة مع بريطانيا، إذا أصرت لندن على النيل من اتفاق أيرلندا الشمالية"
نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي
كان بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني، ينتظر نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة بقلق وخوف شديدين، من وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. وكان يأمل بالطبع أن يستمر دونالد ترمب في رئاسة الولايات المتحدة، من فرط التناغم بينهما، حول أغلب القضايا المطروحة، وفي مقدمتها دعم ترمب عملية انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، وتشجيعه حكومة لندن حتى بالتوقف عن المفاوضات مع شركائها الأوروبيين وإتمام الخروج من طرف واحد، ولا سيما بعد أن شهدت مفاوضات "بريكست" تعثرا تلو الآخر، حتى وصلت إلى ساحة الملاسنات الخارجة عن أي معايير دبلوماسية، فضلا عن التهديدات المتبادلة. كانت مفاوضات صعبة للغاية، وصلت إلى نصف غاياتها وليس كلها، وقبلت لندن بالنصف على أمل أن يسهم الزمن في حصولها على النصف الآخر.
لكن الأمور لم تمض كما تشتهي حكومة المحافظين البريطانية. فالعقدة الأيرلندية بقيت موجودة، وستبقى إلى ما لا نهاية، لأن هذه المسألة بالتحديد لا تنفع معها أنصاف الحلول، أو أدوات الوقت. كان جونسون يريد أن يتم الانسحاب بأي ثمن لتدعيم قوته الداخلية التي بناها أساسا على إتمام "بريكست" بصرف النظر عن أي اعتبارات أو معطلات أو عقبات أو ثغرات. لماذا؟ لأن مشروعه الانتخابي الذي أوصله إلى "داونينج ستريت" لم يشمل سوى هذه القضية التي قسمت المملكة المتحدة إلى قسمين تقريبا: مؤيدون أشداء للاتحاد الأوروبي، وكارهون أكثر حدة لهذا الاتحاد. قبل جونسون وحكومته بوجود حدود لبلاده مع أيرلندا الشمالية الإقليم التابع لها منذ أكثر من قرن من الزمن، لأن اتفاق السلام في أيرلندا يمنع وجود حدود بين هذا الإقليم والجمهورية الأيرلندية العضو في الاتحاد الأوروبي.
هذا الاتفاق الذي تم عام 1998 برعاية مباشرة من الولايات المتحدة خلال رئاسة بيل كلينتون لها، وأشرف عليه جورج ميتشل، السياسي الأمريكي الشهير الراحل، يمثل خطا أحمر بالنسبة لواشنطن في كل العهود الرئاسية التي أتت للبيت الأبيض، ما عدا عهد دونالد ترمب الاستثنائي حقا. فهذا الأخير أعلن نفسه مناوئا شرسا للاتحاد الأوروبي، ومؤيدا قويا للاتفاقات الثنائية مع الدول، وليس مع الكتل الكبرى. وهذا ما يفسر - على سبيل المثال - مواقفه العدوانية تجاه مجموعة السبع الكبرى، وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، وبصورة أو أخرى مجموعة العشرين. كان يستند إلى استراتيجية الصفقات الثنائية، على وتيرة تلك التي تتم في الساحة التجارية، لا الاتفاقات الجماعية الأكثر استدامة، وتتسم بالشمولية بالطبع.
جو بايدن لم يتردد حتى عندما كان مرشحا رئاسيا أن يوجه التحذير تلو الآخر لبوريس جونسون، من مغبة اللعب على اتفاق السلام في أيرلندا الشمالية المعروف بـ "اتفاق الجمعة الحزينة". فواشنطن تمتلك أداة لا يمكن للندن بأي حال من الأحوال مواجهتها، تتعلق بالاتفاق التجاري الذي تسعى إليه مع واشنطن بأي ثمن. فمنذ أن خرجت بريطانيا فعليا من الاتحاد الأوروبي، لم توقع على أي اتفاق مع الولايات المتحدة، لأن الأخيرة ربطته علنا بمصير اتفاق السلام في أيرلندا، في حين دعمت علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي فور تسلم بايدن مقاليد الحكم. ولأن أيرلندا الشمالية تواجه اليوم فراغا سياسيا خطيرا نتيجة رفض الاتحاديين الأيرلنديين المؤيدين للتاج البريطاني تشكيل حكومة مع الجمهوريين المؤيدين للوحدة مع جمهورية أيرلندا، بدأت حكومة بريطانيا بالتحرك من أجل خرق اتفاق "بريكست" الذي ينص على وضع حدود جمركية وتفتيشية بين لندن وإقليمها الأيرلندي. أي: ببساطة إنشاء حدود بين الإقليم والجمهورية المشار إليها.
إنه باختصار خرق لاتفاق مسجل في الأمم المتحدة، وهذا أمر غير مسبوق من دولة كبرى كبريطانيا، فضلا عن أنه تراجع عن تعهدات رسمية ملزمة من جانب لندن. هذه الأخيرة تريد اتفاقا سريعا مع واشنطن، لكن المسؤولون الأمريكيون ليسوا متعجلين، ما لم يتوقف البريطانيون عن اللعب بمصير اتفاق سلام أيرلندي تم التوصل إليه بعد عقود من الحرب الأهلية في الإقليم حتى في البر البريطاني، راح ضحيتها الآلاف. فتعزيز الشراكة التجارية بين لندن وواشنطن، لا يمكن أن يتم إلا بتعزيز العلاقة بين الأيرلنديتين. هذا هو الخط الذي وضعته إدارة الرئيس بايدن التي صممت على عدم السماح بتجاوزه حتى لو أدى الأمر إلى قطيعة مع لندن، وضرب العلاقة التي توصف عادة بالخاصة معها.
المهمة التي تواجه بوريس جونسون ليست صعبة فحسب، بل يمكن وصفها بالمستحيلة، وعليه أن يدرس خيارات أخرى على أن تكون ضمن المعقول والمقبول أيضا، شرط عدم المساس بالثوابت الخاصة بمصير السلام في أيرلندا، وحكومته تعلم أنها وافقت على إقامة حدود مع أيرلندا الشمالية للانتهاء من مفاوضات "بريكست" على مبدأ تأجيل المصيبة لا حلها، وهي اليوم تواجه تبعات اختيارها صفقة، لا لاتفاق دائم مع شركائها الأوروبيين السابقين، في حين خسرت رهانها على استمرار دونالد ترمب الانفصالي في البيت الأبيض.
إنشرها