متعة الحرمان
هل من الممكن أن يكون في الحرمان متعة؟ للوهلة الأولى ستكون الإجابة بالنفي، إذ لا يستقيم أن يكون الحرمان مصدرا للمتعة، لكن بالتأمل والاستقراء يتضح خلاف ذلك ويظهر جليا أن بعض أنواع الحرمان ليس مجرد متعة فحسب، بل مصدر تربية وتهذيب للنفس. الصوم أوضح مثال، إذ إن الامتناع عن الأكل والشرب مثلا طوال النهار هو في ظاهره حرمان، إلا أن حقيقته أنه يقوي الإرادة ويزكي النفس، بل ويفيد الجسد.
فالحرمان هنا وسيلة لا غاية. الإنسان بطبيعته البشرية يتضايق من أن يكون قدره الحرمان من أمر محبب للنفس كالمال والولد، ويجهل أن هذا الحرمان قد يكون خيرا له وأنه يحمل في ثناياه فوق ما يتصوره، إذ قد يكون المال الذي حرم منه لو حصله لكان وبالا عليه، والولد الذي لم يقدر له لو جاءه لكان مصدر شقاء وعذاب. من هنا فإن العاقل ينظر إلى الحرمان والعطاء نظرة واحدة فكلاهما من الله نعمة وفضل وإحسان، أدرك ذلك الإنسان أم لم يدركه. "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم...".
يرى علماء الاجتماع أن الحرمان عادة ما يكون وقودا للتميز وذلك لأن معظم المبدعين في مختلف المجالات كانوا يعانون في فترة من فترات حياتهم الحرمان، لكنهم أصروا على تحويله إلى نجاح وإبداع وتميز. ليس هذا فحسب، بل إن من لم يذق لوعة الحرمان من شيء ما فإنه لن يشعر بلذة الحصول عليه.
انظر إلى الفقير عند حصوله على أمر يفتقده كالمسكن أو المركب كيف يجد السعادة الغامرة والفرحة التي لا حدود لها، وذلك على خلاف ذي السعة الغني القادر على امتلاك الكثير، كيف أنه يفتقد المتعة بسبب أنه لم يعاني الحرمان من قبل. بل انظر إلى الفقير الجائع حين يأكل بشهية لا حدود لها، خلاف من تتوافر له دائما صنوف الطعام والشراب. ألم يقل العرب في أمثالهم، "فبضدها تتميز الأشياء". الحرمان أنواع فهناك الحرمان المادي وهناك الحرمان الاجتماعي والحرمان النفسي، لكن من أصعبها الحرمان العاطفي ومع ذلك يقول أبو تمام:
ولو عرف الناس التلاقي وقربه
لحبب من أجل التلاقي التفرق.