سوق العملات المشفرة تواجه تقلبات جامحة .. هل بدأت نظرية الدومينو في العمل؟

سوق العملات المشفرة تواجه تقلبات جامحة .. هل بدأت نظرية الدومينو في العمل؟
البعض قلق بشأن الزيادة السريعة في استخدام الوقود لتعدين البيتكوين ومعاملاتها خاصة الفحم.
سوق العملات المشفرة تواجه تقلبات جامحة .. هل بدأت نظرية الدومينو في العمل؟

منذ شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي حتى نهاية الأسبوع الثاني من شهر أيار (مايو) الجاري، أدى هروب المستثمرين من الاستثمار في الأنشطة المحفوفة بالمخاطر، إلى انخفاض سعر عملة بيتكوين وغيرها من العملات المشفرة إلى النصف، وبلغة الأرقام كان هذا الانخفاض يعني خسارة أكثر من تريليون دولار من الأموال الرقمية.
بعيدا عن الفزع التقليدي الذي يصيب المستثمرين في العملات الرقمية عند سماع تلك الأخبار، فإن عديدا من الأسئلة المنطقية تطرح نفسها في هذا الشأن، لماذا حدثت تلك الخسائر الضخمة؟ وما الأسباب؟ هل ستستعيد أسواق العملات المشفرة توازنها؟ متى سيحدث ذلك؟ هل الأمر متعلق بحالة من التراجع المؤقت أم الدائم؟ هل الخسائر حصرا على سوق العملات المشفرة أم أن الأمر مرتبط بانخفاض في سوق الأسهم الأمريكية أيضا؟
وهل من دلالة لهذا الانخفاض الحاد في قيمة العملات المشفرة على وضع الاقتصاد الدولي؟ كيف ستتعامل المؤسسات المالية والمصارف العالمية مع تطورات سوق العملات المشفرة؟ وما مدى انعكاس تلك الأوضاع على التوجهات السائدة في عديد من البنوك المركزية بالرغبة في إصدار عملتها الرقمية الخاصة؟ فهل يعزز التراجع الراهن في أسعار العملات الرقمية تلك التوجهات أم يضع نهاية لها؟
"الاقتصادية" حملت تلك الأسئلة إلى عدد من الخبراء لمعرفة رؤيتهم تجاه الأوضاع الراهنة في سوق العملات المشفرة ومستقبلها.
الدكتور أوغدين أرثر، أستاذ الأنظمة الاستثمارية في عدد من الجامعات البريطانية يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "لفهم الوضع الراهن في سوق العملات المشفرة ومدى خطورته، يجب رسم صورة لتطورات المشهد العام. ففي العام الماضي اكتسبت أسواق العملات المشفرة شرعية ملموسة بعد اعتبارها لأعوام منتجا ماليا مقلقا هامشيا، ويحمل في طياته جوانب خطيرة من مفاهيم المضاربة، فشركة تسلا على سبيل المثال أعلنت أنها اشترت بما قيمته مليار ونصف المليار دولار من عملة بيتكوين".
ويضيف : "أدى هذا إلى ارتفاع أسعار بيتكوين وغيرها من العملات المشفرة، والأهم أنه سادت قناعات بأن العملات المشفرة تعد تحوطا ماليا جيدا ضد الموجة التضخمية، التي تضرب الاقتصاد الدولي، هذا أوجد فقاعة من الطلب، وفجأة أدت التقلبات الجامحة وهي أمر شائع في العملات المشفرة إلى انسحاب المستثمرين من السوق، وبدأت نظرية الدومينو في العمل، وحتى بيتكوين أكثر العملات المشفرة استقرارا تراجعت 29 في المائة على مدى سبعة أيام متتالية، هذا التطور يرسخ فكرة أن المجال الاستثماري في سوق العملات المشفرة بعيدا تماما عن الاستقرار".
ويتابع "رفع أسعار الفائدة ومواصلة الزيادة في معدلات التضخم أوجد موجة من الذعر لدى المستثمرين، ودفعهم إلى بيع أصولهم والاحتفاظ بالأموال السائلة، وبالطبع في مثل تلك الأوضاع من عدم الثقة بالاقتصاد، فإن أول ما تتخلص منه هو الأصول المحفوفة بالمخاطر، مثل العملات المشفرة، بينما تواصل الاحتفاظ بالذهب والعقار".
لورين ماتيوث المحللة المالية في شركة فاندنج للتجارة في العملات المشفرة ترجع الانهيار الراهن في السوق إلى قرارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والتغيرات التي حدثت في طبيعة المستثمرين في السوق.
وتعلق لـ"الاقتصادية" قائلة: "منذ الربع الثالث من العام الماضي والفيدرالي الأمريكي يتحدث عن موجة تضخمية عنيفة ستضرب الاقتصاد العالمي ككل والاقتصاد الأمريكي بشكل خاص، وأنه لا يرى مفرا من مواجهة تلك الموجة التضخمية غير رفع أسعار الفائدة، كان ذلك مؤشرا للمستثمرين بأن نمو الاقتصاد العالمي سيتراجع، ما سرع من الرغبة في التخلص من العملات المشفرة للاستفادة من الزيادة المقبلة في أسعار الفائدة".
وتضيف "تفاقمت الخسائر نتيجة التغيرات التي دخلت على القوى الاستثمارية في سوق العملات المشفرة، الذي تحول في الأعوام الأخيرة من استثمار فردي إلى استثمار مؤسسي، حيث دخلت صناديق التحوط بقوة للاستثمار في هذا المجال، ومع انخفاض الأسعار اندفعت صناديق التحوط للانسحاب السريع من السوق، ما ضاعف الخسائر، وزاد من الطين بله أن ذلك بعث برسالة شديدة السلبية للمستثمرين الأفراد بسرعة التخلص مما لديهم من عملات مشفرة".
وتقول: تلك التطورات ترافقت مع تطورات أخرى فاقمت من سوء الوضع، أبرزها تضييق الصين على عروض العملات المشفرة وحظر تبادل العملات الرقمية والمضاربة عليها، وأعلن بنك الشعب الصيني "أي البنك المركزي الصيني" حظر العملات الرقمية بشكل فعال، بعد الإعلان عن أن جميع معاملات العملات المشفرة غير قانونية، أيضا أسهمت تغريدات إيلون ماسك أغنى رجل في العالم في تدهور الوضع، فبعد دعمه القوي لعالم العملات المشفرة بتأييد قبول "تسلا" البيتكوين كدفعة مقابل خدمتها، سحبت "تسلا" هذا الخيار بعد تغريدة لماسك جاء فيها "نحن قلقون بشأن الزيادة السريعة في استخدام الوقود لتعدين البيتكوين ومعاملاتها، خاصة الفحم الذي يحتوي على أسوأ انبعاثات من أي وقود" تلك التغريدة فسرت على أن ماسك وتسلا يسحبان دعمهما العملات الرقمية.
"هل نحن إذن أمام بداية النهاية لعالم العملات المشفرة؟" يستبعد الخبير الاستثماري مات لين هذا تماما، ويعد أن الأمر لا يتجاوز تقلبات ضخمة ومؤلمة في الأسواق، لكن العملات المشفرة من وجهة نظره باقية.
ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا "يصعب الجزم بتاريخ محدد لتعافي السوق لأن الأمر مرتبط بمجموعة متعددة من العوامل التي أدت للانهيار الراهن، لكن الأعوام الأخيرة شهدت قناعات واضحة من الأسواق بأن العملات المشفرة باتت جزءا من هياكل النظم المالية المقبلة، كما أن العملات المشفرة نجحت في إحداث ترسيخ قناعة لدى صناديق التحوط بأنها مجال استثماري ناجح، تلك القناعات يصعب التخلي عنها مع أول هزة عنيفة في الأسواق، فالعملات المشفرة نضجت من فئة أصول غامضة مع عدد قليل من المستخدمين إلى جزء لا يتجزأ من ثورة الأصول الرقمية، التي باتت ركنا مهما في الاقتصاد الرقمي المتنامي".
ويختتم مات لين تعليقه بالقول "في أسوأ الأحوال، العملات المشفرة تواجه بياتا شتويا قد يطول أو يقصر بناء على معدلات أسعار الفائدة ونسب التضخم، لكن المؤكد أننا لن نشهد عصرا جليديا يقضي عليها".
ويرى المحلل المالي في البنك الدولي ستيورت مولر أن هناك ترابطا متزايدا بين العملات المشفرة والأسواق المالية وتحديدا الممتلكات التقليدية مثل الأسهم.
ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا "ارتفعت القيمة السوقية للعملات المشفرة إلى نحو ثلاثة تريليونات دولار في نوفمبر الماضي من 620 مليار دولار في 2017، وعلى الرغم من خسارتها ثلث قيمتها في الأشهر الستة الماضية ـ فهي لا تزال تمثل زيادة بنحو أربعة أضعاف ما كانت عليه 2017، لكن دراسات البنك الدولي كشفت أن تزايد تبني الأفراد والمؤسسات الاستثمارية للعملات المشفرة زاد من ارتباطها بسوق الأسهم".
ويضيف "فقبل جائحة كورونا كان هناك ارتباط ضئيل بين العملات المشفرة ومؤشرات الأسهم الرئيسة، لكن الطريقة التي تعاملت بها البنوك المركزية مع أزمة كورونا، بضخ مليارات الدولارات في الاقتصادات الوطنية، أسهم في ارتفاع أسعار العملات المشفرة والأسهم معا نتيجة توفر سيولة مالية في أيدي الأفراد، هذا الأمر امتد أيضا إلى الاقتصادات الناشئة، ويلاحظ أن الانخفاض الحاد في أسعار البيتكوين يؤدي إلى زيادة نفور المستثمرين من المخاطر، ويؤدي إلى انخفاض الاستثمار في سوق الأسهم، هذا الارتباط الذي يسمح بنقل الصدمات يمكن أن يزعزع استقرار الأسواق المالية في أوقات التراجع كما هو الحال الآن".
هذا الارتباط بين العملات المشفرة وسوق الأسهم هو ما يدفع الدكتورة إيملي إيدسون أستاذة الاقتصاد العالمي في جامعة شيفيلد إلى التحذير من أن تراجع سوق الأسهم والعملات المشفرة في الوقت الحالي قد يزيد من المأزق الاقتصادي العالمي على حد قولها.
وتقول لـ"الاقتصادية" إن "الأصول المشفرة لم تعد على هامش النظام المالي الدولي، وسوق الأسهم قلب النظام الاقتصادي العالمي، الحركة المشتركة لهما قد تشكل مخاطر على الاستقرار المالي، خاصة في البلدان التي تتبنى التشفير على نطاق واسع".
وتؤكد الدكتورة إيملي أن الوقت قد حان لاعتماد إطار تنظيمي عالمي شامل ومنسق لتخفيف مخاطر الاستقرار المالي الناشئة عن النظم البيئية للعملات المشفرة من جانب، وأيضا الناجمة عن علاقة الترابط المتزايدة بين العملات المشفرة والأسهم.
تلك الدعوة هي التي تفتح الباب على مصراعيه لمعرفة كيفية تعامل المؤسسات الدولية مع أسواق العملات المشفرة، والأهم كيف ستتعامل البنوك المركزية مع فكرة التشفير ذاتها في ظل الحديث المتزايد عن قيام عدد من البلدان بإصدار عملتها الرقمية الخاصة.
الخبير المصرفي بيتر سانتيل يدعو إلى التفريق بين البنوك وكيفية تعاملها مع العملات المشفرة والبنوك المركزية ورغبتها في إصدار عملتها الرقمية.
ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا "في الأغلب ستنأى البنوك بنفسها على الأقل حاليا عن سوق العملات المشفرة، فحتى قبل التراجع الضخم في قيمة العملات المشفرة، يلاحظ أن البنوك لم يكن عندها اندفاع شديد للاستثمار في هذه السوق، إذا ما قارنا ذلك بسوق العقارات على سبيل المثال، فلا يزال هناك توجس من الطبيعة المتقلبة والعنيفة التي تحكم السلوك الاستثماري فيها".
ويعتقد بيتر سانتيل أن البنوك المركزية منطق تفكيرها مختلف، فهي تدرك أن العملات المشفرة باتت جزءا أصيلا من التنظيم المالي العالمي، وستزداد مساهمتها المستقبلية، كما أن البنوك المركزية لديها التزامات أكبر تجاه المنظومة المالية بصفة عامة، لذلك من غير المرجح أن يؤدي الانهيار الراهن في قيمة العملات المشفرة إلى منع البنوك المركزية من المضي قدما في إصدار عملاتها المستقرة التي تعد جزءا من العملات المشفرة، فهي تسعى جاهدة إلى إدخال درجة من الاستقرار والانضباط في سوق العملات المشفرة، وهذا لا يمكن أن يحدث دون أن تكون هي ذاتها جزءا من هذه السوق.

الأكثر قراءة