FINANCIAL TIMES

هبوط أمريكي ناعم ممكن .. لكنه مستبعد

هبوط أمريكي ناعم ممكن .. لكنه مستبعد

"التضخم مرتفع للغاية ونحن نتفهم الصعوبات التي يسببها، ونتحرك بسرعة لخفضه مرة أخرى. لدينا كل من الأدوات التي نحتاج إليها والعزم اللازم لاستعادة استقرار الأسعار من أجل العائلات والشركات الأمريكية". هكذا افتتح جاي باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، المؤتمر الصحافي الذي أعقب اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة الأسبوع الماضي. كان هذا اعتذارا مذلا. لكنه بدا أيضا مثل عبارة "كل ما يتطلبه الأمر" التي اشتهر بها ماريو دراجي في تموز (يوليو) 2012.
ما الذي يدل عليه تجديد الاحتياطي الفيدرالي التزامه بخفض معدلات التضخم فيما يتعلق بالمستقبل؟ جادل باول بتفاؤل، "لدينا فرصة جيدة للحصول على هبوط ناعم أو هادئ". كان يقصد بهذا أن الطلب سيقترب أكثر من العرض، الذي بدوره يمكن أن "يخفض الأجور، ويخفض التضخم دون الحاجة إلى إبطاء الاقتصاد وأن يكون هناك ركود وزيادة البطالة فعليا". كذلك جادل بأن "الاقتصاد قوي، وهو في وضع جيد للتعامل مع سياسة نقدية أكثر تشددا (...) لكنني سأقول إنني أتوقع أن يكون هذا صعبا للغاية".
الأمر الأكثر إثارة للحيرة في هذه الحجة ليس الاعتراف بصعوبة تحقيق المسار المقترح، بل الاعتقاد بأنه سيصل إلى وجهته. هل من الممكن حتى خفض التضخم إلى المعدل المستهدف فقط من خلال تقليص النشاط المحموم في سوق العمل؟
يشير بعضهم إلى أنه أمر يحتمل حدوثه. ألان بلايندر، من جامعة برينستون ونائب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي سابقا، لاحظ أخيرا أن في سبع من الـ11 حالة الأخيرة على الأقل، أدى تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى عمليات هبوط "ناعمة جدا". تكمن صعوبة هذه المقارنات في أن التضخم وصل الآن إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاما. حتى معدل التضخم السنوي "الأساسي" في أسعار السلع الاستهلاكية "دون الطاقة والغذاء" كان 6.5 في المائة في العام المنتهي في آذار (مارس) 2022.
إذا اعتقد أحدهم أن هذا سيتلاشى بعد تشديد متواضع، فلا يزال يتعين عليه الاعتقاد بأن التضخم في الغالب "عابر". هذا متفائل للغاية. بشكل حاسم، تمتعت الولايات المتحدة بتعاف قوي بشكل استثنائي. كان نمو الناتج العام الماضي أقوى بكثير مما كان عليه في الدول الأخرى ذات الدخل المرتفع. وكان انتعاش سوق العمل قويا، مع ارتفاع معدلات الشواغر الوظيفية، ومعدلات الاستقالة من العمل والعودة السريعة إلى البطالة المنخفضة. معدلات التوظيف فقط لا تزال أدنى قليلا من القمم السابقة. علاوة على ذلك، كان نمو الأجور قويا، على الرغم من أنه كان يتباطأ قليلا، كما يشير جيسون فورمان، الرئيس السابق لمجلس المستشارين الاقتصاديين.
على عكس تأكيدات باول، تكمن الصعوبة في أن التضخم لا يتلاشى عادة في مثل هذا الاقتصاد القوي. مما لا شك فيه أن جزءا من التضخم المقاس يرجع إلى قيود الإمدادات المحلية والعالمية، التي تمت مناقشتها بالتفصيل في الشهر الماضي. لكن هذه أيضا طريقة للقول إن زيادة الطلب تضغط الآن على العرض في الداخل والخارج. إذا كان باول سيثبت صحة ذلك، يجب على الأقل ألا تزداد القيود المفروضة على الإمدادات سوءا، في حين يتعين على الشركات والعاملين المتضررين منها أن يتحملوا انخفاض الأرباح والدخول الحقيقية. لكن لماذا ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك؟ يشير فورمان إلى أن "الزيادة البالغة 8.5 في المائة في مؤشر أسعار السلع الاستهلاكية في 12 شهرا حتى آذار (مارس) أسرع كثيرا من وتيرة نمو معدل الأجور الاسمي، ما يؤدي إلى أسرع انخفاضات في الأجور الحقيقية على مدار عام في 40 عاما على الأقل". الشروط اللازمة لدوامة زيادة التكاليف وارتفاع الأسعار موجودة الآن. بدلا من ذلك، ينبغي أن نأمل انعكاس اتجاه قيود الإمدادات وسوق العمل، ما يؤدي إلى انخفاض الأسعار وبالتالي القضاء تقريبا على الحاجة إلى استعادة الدخل المفقود.
وجهة النظر القائلة بأنه لن تكون هناك حاجة إلى ركود حاد لكبح التضخم هي وجهة نظر متفائلة. لكن هذا ليس الشكل الوحيد للتفاؤل الذي نراه اليوم. الشكل الآخر يتمثل في الاعتقاد بأنه يمكن تجنب مثل هذا الركود. تكمن الصعوبة هنا في أن ضبط التباطؤ سيكون أصعب من المعتاد. أحد أوجه عدم اليقين هو أن انخفاض الدخول الحقيقية الناجم عن التضخم المرتفع من المرجح أن يحد من الطلب، لكن إلى أي مدى سيفعل ذلك هو أمر يعتمد على مدى رغبة المستهلكين في إنفاق المدخرات التي تراكمت خلال الركود الناجم عن كوفيد.
هناك حالة أخرى من عدم اليقين ربما تكون أكثر أهمية، هي كيفية تأثير السياسة النقدية المتشددة على الأوضاع المالية في الولايات المتحدة وخارجها. يجب ألا ننسى أن هناك مستويات عالية بشكل استثنائي من الديون المقومة بالدولار في جميع أنحاء العالم. علاوة على ذلك، وصلت أسعار الأصول أيضا إلى مستويات قصوى، كانت أسعار المنازل في الولايات المتحدة "تم قياسها بناء على مؤشر ستاندرد آند بورز كيس-شيلر الوطني لأسعار المنازل، الذي تراجع بسبب مؤشر أسعار السلع الاستهلاكية" في شباط (فبراير) 2022 أعلى 15 في المائة مما كانت عليه قبل الأزمة المالية، ونسبة أسعار الأسهم إلى الأرباح المعدلة دوريا أعلى مما كانت عليه في أي فترة منذ 1881، باستثناء أواخر التسعينيات وأوائل 2000. الانهيارات في أسعار الأصول استجابة للتشديد النقدي من شأنها أن تعزز سياسة الاحتياطي الفيدرالي، لكن بشكل غير متوقع. حتى الإجراءات المتواضعة للاحتياطي الفيدرالي كان لها تأثيرات كبيرة، قفزت أسعار الفائدة المتوقعة واضطربت الأسواق. هل ما رأيناه نهاية ذلك الاضطراب ـ كما يبدو على الأرجح ـ أم أنه ليس سوى بدايته؟
باستثناء المؤرخين، قد يكون من غير المنطقي أن نسأل كيف وقعنا في هذا الوضع الصعب. من الواضح أنه يرجع جزئيا إلى الصدمات غير المتوقعة. لكن صناع السياسة بالغوا في التفاؤل بشأن التضخم. كان ينبغي لهم أن يبدأوا في تطبيع السياسة النقدية التي تم العمل بها في أزمة غير عادية بمجرد انتهاء الأسوأ. يعمل الاحتياطي الفيدرالي الآن على تقليص الحوافز النقدية لكن بعد فوات الأوان.
مع الأسف، من المحتمل جدا أن تكون هناك حاجة إلى الركود للسيطرة على التوقعات التضخمية. علاوة على ذلك، حتى لو تبين أنه غير ضروري لأن التضخم آخذ في التلاشي تماما، قد يحدث ركود اقتصادي لأنه ببساطة حتى التشديد المتواضع للسياسة يثير الفوضى في أسواق الأصول الهشة اليوم. لكن يتعين على الاحتياطي الفيدرالي أن يحافظ على مصداقيته المدمرة فيما يتعلق بالتضخم. هذا هو جوهر تفويض البنك المركزي. يجب أن يظهر شجاعته ويفعل ما يتطلبه الأمر.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES