Author

الغباء والفساد

|

في المسلسل القديم "درب الزلق"، الذي أعده أحد الأعمال الفنية الخالدة في الخليج وأراه حقق رسالة فنية نقدية عميقة في قالب كوميدي، في ذلك المسلسل مشهد استحضره في كل مرة يعلن فيها القبض على مجموعة من الفاسدين.
في ذلك المشهد يخرج بائع الثلج أبو صالح من منزله ليجد المكان أمام المنزل خاليا من البضاعة، الثلج، فيسأل ولده صالح، الذي قدمه الكاتب طيلة المسلسل على أنه "غبي"، عن الثلج، فيخبره أنه تمكن من بيعه دفعة واحدة، يسر الأب كثيرا، ويبدأ في الثناء عليه، ثم يأتي السؤال بديهيا عن المال المتحصل من عملية البيع؟ فيجيب الإبن: "شريت فيه سبال مملح"، أي الفول السوداني المملح.
يجن جنون الأب من فقده حلقة مهمة في دائرة نشاطه الاقتصادي، إذ كان المفترض أن يأخذ ربحه ويعيد تدوير رأس المال في شراء الثلج بالجملة من المصنع ليبيعه بالتجزئة على الناس. لم يكن الابن فاسدا بالمعنى النظري أو الاصطلاحي للكلمة، لكنه أفسد تجارة والده، أو أضعفها على الأقل، لكنه بالتأكيد كان غبيا، ولم يحسب حساب العواقب الاقتصادية والنفسية على أسرته، أي أنه فكر في لذته الآنية، ربما لأنه يعتقد في عقله الباطن أن مصادر والده لا تنضب، أو أن والده وأسرته لن يحفلوا بضياع كمية من مواردهم يراها هو ضئيلة قياسا بكميات الثلج التي باعها وسيبيعها والده طيلة حياته.
الآن، فلنتخيل أن هذا الابن كان أذكى قليلا، وكان يأخذ فقط جزءا من ريع بيع ثلج والده لتحقيق متعته الخاصة، ربما كان سيدوم نعيمه المؤقت بهذه السرقة فترة أطول، لكن في النهاية سيتواصل تآكل موارد العائلة، لأن هناك مصروفات دائمة يستقطعها الأب من الأرباح، ولأن رأس المال الذي سيعاد تدويره سيقل مع الزمن، وستصل الأسرة أخيرا إلى مرحلة "الإفلاس".
هذا السيناريو يفترض ثبات رغبات وشهوات الابن عند "السبال المملح"، لكن الشواهد الإنسانية والتاريخية تقول إنه بعد فترة من الزمن سيبدأ سقف رغباته في الارتفاع، إما لإحساسه بالأمان وعدم كشف أمره، ومن ثم انطلاق تفكيره إلى شراء الجوز، أو الفستق الحلبي، وإما لأن بائع الفول السوداني سيعرض عليه ذلك انطلاقا من إحساسه أن لدى الفتى تدفقات نقدية دائمة، فيزين له في هذه الحالة تجربة الجوز أو الفستق، وهنا سيبدأ هاجس جديد يسيطر عليه، زيادة النسبة المقتطعة من عوائد بيع الثلج.
كل السيناريوهات ستقود إلى إفلاس العائلة، وبالطبع إفلاسه هو، ويبقى عامل الوقت هو المهم.
هل كان الفاسدون أغبياء؟ أو كان بعضهم على الأقل كذلك؟ الإجابة الأكيدة هي: نعم.

إنشرها