Author

العيش في الواقع

|
في المعيشة اليومية هناك أناس واقعيون، أناس بسطاء ربما لم ينطقوا طيلة حياتهم بكلمة "في الواقع"، لكن ممارستهم للحياة، وتطبيقهم لأساليب معيشية، ينبئان عن فطرة سليمة، وتعايش سلمي مع الواقع، وبعد نظر يكون في أحيان كثيرة غير مقصود، ويأتي في إطار التوفيق من رب العالمين، أو بركة الرزق، أو رضا الوالدين، أو حتى نتيجة حتمية لسماحة أنفسهم، وبساطة تعاملهم مع الحياة، أو كما أعتقد شخصيا إهانتهم للدنيا بدلا من جعلها تهينهم.
بأمثلة بسيطة، تجد رجلين محدودي الدخل، في الأغلب كلاهما موظف مدني أو عسكري في رتبة دنيا، أو موظف أهلي صغير، الأول يعيش في دوامة اقتصادية لا منتهية، لكونه يلبس ثوبا غير ثوبه، مسكنه بإيجار فوق طاقته فيظل طيلة حياته في شقق مستأجرة، ومركبه أيضا بالإيجار لأنه يفوق قدرته المالية، ويظل معظم فترات حياته يرهن دخله لعقود إيجارات لا ينتهي أيا منها بالتملك، وملبسه لامع براق يعجز عن تغطية صدأ سعادته.
الثاني، وهو نموذج نصادفه أحيانا، يستعجل السكنى في منزل يمتلكه، منزل صغير "مسلح" في أحد الأحياء المتوسطة، فيزيح هم الإيجار باكرا، ويركب سيارة "نصف عمر" لا تكلفه شهريا شيئا يذكر، ويلبس نظيفا لكنه غير "مبهرج"، ويعيش سلما داخليا مع نفسه، يساعده على مواجهة ضغوط الزوجة والأطفال الذين في الأغلب ما يبحثون عن السائد في مجتمعهم حتى لو كان زائفا.
هل تعرفون ما الذي يحدث غالبا؟، الذي يحدث أن الثاني يصل ويحقق الأهداف أسرع من الأول، فيصيب بعض سعادة الدنيا بتسلسل منطقي، وبالمثال تجده في الأغلب يصل إلى مرحلة "الفيلا" الخاصة والسيارة العائلية أسرع من صاحبه، وربما تقولون أنه قتر على نفسه وعياله، مقابل من متع نفسه وعياله، فأقول: إن المتعة هنا نسبية، وإن مراحل عيش الأول تعطي معنى وقيمة للأشياء في نظر عائلته وتعلمهم الصبر والتخطيط للحياة، في مقابل التذمر وفقد طعم الأشياء في عائلة الثاني.
من عاش بالديون والحيل و"المطامر" هو في الأغلب تعيس، قلق، عصبي، بل حتى غير منتم لأي طبقة اقتصادية يستطيع ترتيب أموره تبعا لها، بينما من عاش ببساطة كان باله أوسع، ومزاجه أسعد، وأحس بكل نقلة اقتصادية حققها في حياته.
لا أشك أن الأمور المعيشية تصعب يوما بعد آخر، لكني أثق أن بعض ابتسامات محدودي الدخل تنبع من الداخل، وتنبئ عن واقعية يتمناها كثير من الحالمين.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها