Author

في بريطانيا هموم اقتصاد وسياسة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"سنساعد الأسر على مواجهة تكاليف العيش إذا أمكن"
ريشي سوناك، وزير المالية البريطاني
بريطانيا ليست وحدها في الهم الاقتصادي العالمي. والحق أن الكل في الهم شرقا وغربا، مع تباينات بين هذه المنطقة وتلك. لكن لبريطانيا حالة خاصة بعض الشيء، لأن المصاعب الاقتصادية التي تواجهها أتت بعد جائحة كورونا التي ضربت العالم، وتركت آثارا لن تمحى لأعوام عديدة، وحلت في وقت تحول المملكة المتحدة - بفعل بريكست - من عضو في الاتحاد الأوروبي، إلى جار لهذه الكتلة الهائلة، لم تستكمل حتى اليوم الصيغة النهائية لخروجه منها. يضاف إلى ذلك الاضطراب السياسي الذي ضرب حكومة بوريس جونسون، بفعل ما أصبح يعرف بـ "بارتي جيت"، أي: اللقاءات الاجتماعية التي حدثت في مقر الحكومة في لندن وشارك هو شخصيا فيها، رغم حظر التجمع الذي فرضته الحكومة ذاتها على المواطنين في الأشهر الأولى لكورونا.
وبالطبع تسهم الحرب بين روسيا وأوكرانيا في مزيد من الضغوط على بريطانيا وغيرها، إلى درجة أن حذر ريشي سوناك وزير المالية، أن حظر واردات النفط والغاز من روسيا بشكل فوري على مستوى الاتحاد الأوروبي، سيتسبب في هزة اقتصادية في أنحاء أوروبا، وسيكبد الاقتصاد البريطاني خسائر تراوح قيمتها ما بين 75 و79 مليار جنيه استرليني، أو ما يوازي 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. هذه الخسائر ستضاف بالتأكيد إلى التكاليف الأخرى الناجمة عن عمليات إنقاذ الاقتصاد المحلي خلال الجائحة العالمية، في حين بات التردد واضحا من جانب المشرعين الاقتصاديين في البلاد، في مسألة ضخ حزم مساندة مالية - إن جاز القول - للأسر التي تعاني أعلى موجة تضخم منذ أكثر من أربعة عقود تقريبا.
التضخم على الساحة البريطانية رفع أسعار السلع الرئيسة والثانوية، ما زاد تلقائيا ما يعرف بـ "بنوك الطعام"، في بلد يحتل المرتبة الخامسة عالميا من حيث حجم اقتصاده، ورفع أعداد المحال التجارية التي تبيع السلع الرخيصة جدا، وهو أمر لم يكن موجودا بقوة. هذا التضخم الذي بلغ 7 في المائة، وهو مرشح للارتفاع في الأشهر المقبلة إذا ما استمرت الأوضاع المحلية والخارجية على حالها، أجبر الأسر حتى على التخلي عن حيواناتها الأليفة لعجزها عن توفير الطعام لها. فوفق جمعيات الرفق بالحيوان، زاد عدد الحيوانات التي تخلى أصحابها عنها 200 في المائة هذا العام عن العام الذي سبقه. فإذا كانوا لا يستطيعون تأمين تكاليف الحياة لأنفسهم، فكيف لهم أن يتحملوا الإنفاق على حيواناتهم؟
أمام هذا الواقع، يتوقع وزير المالية أن ينمو اقتصاد بلاده في العام الجاري بنسبة 3.8 في المائة، في حين كانت التوقعات السابقة تشير إلى 6 في المائة. وسينمو استنادا إلى توقعات مكتب الميزانية 1.8 في المائة في العام المقبل، و2.1 في المائة عام 2024، وهذه أيضا تغيرت نحو الأسفل. وتؤكد شركة "جي إف كيه" لأبحاث التسوق، أن مؤشرها لثقة المستهلكين انخفض إلى سالب 38 نقطة من سالب 31 نقطة، وهذا أدنى مستوى له على الإطلاق منذ عام 2008 عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن البريطانيين يترددون في التسوق، وسط حالة من التشاؤم المتصاعدة. وهذه الحالة وصلت إلى أوجها بالفعل قبل أيام، عندما فرضت محال بيع السلع الغذائية حدودا لشراء زيوت الطعام، نتيجة نقص الإمدادات بفعل الحرب في أوكرانيا. فهذه الأخيرة تعد المصدر الرئيس لهذا النوع من السلع على المستوى العالمي.
هذا المشهد تصاحبه تطورات استثنائية لا أحد يرغب في وجودها، تتعلق بمصير حكومة بوريس جونسون التي تستعد لانتخابات محلية قريبة، تدل المؤشرات على أنها ستتكبد خسائر فادحة فيها. فالصراع داخل حزب المحافظين الحاكم حول ضرورة استقالة جونسون من عدمها لحسم فضيحة "بارتي جيت" يتصاعد وينثر المخاطر، ليس فقط على الساحة الوطنية، بل في ميدان الحزب نفسه. واضطراب مثل هذا لا يترك مساحة للحكومة للتحرك بحرية في مواجهتها الأزمات والاستحقاقات، ولذلك يتشبث رئيس الحكومة بمنصبه بحجة معالجته للحرب في أوكرانيا، ولا وقت للتغيير الآن. لكنها تبقى حجة واهية، فقد تم تغيير رؤساء وزراء سابقين خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحرب السويس، وحرب تحرير الكويت. من هنا فإن الضغوط من الضفة السياسية سترفع حجم الضغوط على الضفة الاقتصادية، خصوصا أن سوناك وزير المالية متورط هو نفسه بهذه الفضيحة.
قد تكون مسائل التضخم، وارتفاع تكاليف العيش، وتراجع النمو، وزيادة الدين العام، ووقف حزم التحفيز، ورفع معدلات الفائدة، متشابهة بين الدول الغربية في الوقت الراهن، إلا أن الهزات السياسية في بريطانيا تمنحها بعدا خارج النسق العام للأزمة، أضف إليها الهم الذي لم ينته بعد الذي جلبه خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، خصوصا فيما يرتبط بمشكلة أيرلندا الشمالية. فهذه الأخيرة التي تتبع المملكة منذ أكثر من قرن من الزمن، بقيت بصورة أو أخرى ضمن حدود الاتحاد الأوروبي، وهذا خلل نادر لا يتكرر كثيرا بمثل هذه الصيغة.
إنشرها