«قس بن ساعدة» يطفئ نار فتنة في السويد

قد يفاجئ عنوان مقالنا لهذا الأسبوع القراء الكرام، وقد لا يعرف بعضهم من هو قس بن ساعدة، ومن ثم قد يقول من يعرفه ما لقس بن ساعدة، واحد من أشهر حكماء العرب قبل مقدم الإسلام في درء فتنة في السويد؟
كان قس بن ساعدة من أكبر خطباء وحكماء العرب، كان من قبيلة إياد، ولهذا لقب بالإيادي.
سيرته وحكمه وخطبه كانت على لسان العرب، وتثني كتب التراث عليه وتنسب له حكما كثيرة وأساليب لغوية سبكها لأول مرة وما زالت معنا مثل استهلال الخطب أو الرسائل بالعبارة الرائجة حتى يومنا هذا وهي "أما بعد"،
وكان قس بن ساعدة أسقفا لنجران. والأسقف رتبة دينية رفيعة لرجال الكنيسة. بعض القبائل العربية الكبيرة كانت قد تنصرت في الجاهلية، وبعد فجر الإسلام، منها من بقي على دينه ومنها من أسلم.
نصرانية قس بن ساعدة ورتبته الدينية الرفيعة لم تنل من مكانته لدى العرب ولدى أشرفهم وأرفعهم شأنا وهو الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- حيث ينقل المؤرخون أحاديث وأقوالا شريفة تشيد بخطيب العرب وحكيمهم في الجاهلية.
وحتى يومنا هذا، لا أظن يخلو أي منهج لتدريس اللغة العربية أو الأدب العربي في العصر الجاهلي من ذكر لقس بن ساعدة واقتباسات من حكمه أو خطبه التي وصلت إلينا.
وتذكرت قس بن ساعدة الإيادي هذا يوم الخميس من الأسبوع المنصرم. في هذا اليوم قدم إلى مدينتنا هنا في السويد السياسي اليميني المتطرف راسموس بالودان لعقد اجتماع ضمن حملته ومخططه لحرق نسخ من المصحف الشريف في جميع أنحاء السويد.
وأينما حط هذا المتطرف وأصحابه رحالهم، واجهتهم مظاهرات أوقعت عديدا من الجرحى في صفوف الشرطة والمتظاهرين وعقبتها أعمال عنف وشغب في المدن الرئيسة في البلاد.
ولم تنج أي مدينة وصلها هذا المتطرف في حملته المناهضة للإسلام من نار الفتنة التي حاول تأجيجها عدا المدينة التي أسكنها.
والفضل هنا يعود إلى قس بن ساعدة الإيادي السويدي، وهنا أعني رجل دين من الكنيسة السويدية اللوثرية الذي واجه هذا المتطرف المعادي للإسلام بخطاب ذكرني بخطيب بني إياد في الجاهلية.
ما إن بدأ بالودان إلقاء كلمته في اجتماع دعا له مناصروه حتى شرع كاهن الكنيسة القريبة من مكان الاجتماع، فردريك هولرتز، قرع ناقوس الكنيسة بصورة مستمرة.
وحال سماع بالودان وجمعه من المتطرفين دقات الناقوس -وهي إشارة إدانة واضحة وجلية من الكنيسة السويدية ورفضها القاطع لعملية حرق المصحف- حتى توقف عن الكلام وغادر المكان بسرعة وتبعثر مؤيدوه من المتطرفين.
دقات ناقوس الكنائس لها معان مختلفة عدا كونها إشارة أو دعوة للقدوم إلى الكنيسة للصلاة. الطريقة التي قرع بها رجل الدين السويدي ناقوس كنيسته كانت تشير إلى أن المدينة ألم بها خطب وعلى جمهرة المؤمنين والتابعين والمناصرين للكنيسة التجمهر لدرء الفتنة والخطر.
وكانت نواقيس الكنائس في القرون الوسطى في الغرب بمنزلة صافرات الإنذار عن غارة جوية معادية أو قصف محتمل للعدو في عصرنا. وقرع النواقيس يأتي في أنماط شتى لا يسع المجال إلى شرحها هنا.
ربما كان الحدث يمر مرور الكرام لولا تدخل الشرطة السويدية التي استدعت هولرتز، رجل الدين السويدي، واستجوبته متهمة إياه بتخريب اجتماع مرخص وفضه من خلال ناقوسه.
هنا صار هولرتز وناقوسه مادة للإعلام. وأخذت الصحف والناس والقنوات تتحدث عن الناقوس وكيف أن قرعه أوقف المتطرف بالودان وحملته المناوئة للإسلام عند حدها وأخمد، ولو لحين، فتنة كان في الإمكان أن تخرج عن سيطرة الشرطة لاستغلالها من قبل عصابات إجرامية تعمل في السويد، وهذا بشهادة مدير الشرطة الوطنية السويدية.
وكان للتصريحات التي أطلقها رجل الدين السويدي للصحافة وقع حيث وصف حرق المصحف بالعمل البربري والوحشي لأنه ينتهك القدسية التي يسبغها عليه أتباعه، وقال: "إنني أعبر عن تعاطفي الكبير مع المسلمين في يونشوبنك -المدينة التي أسكنها- وفي كل السويد".
وعندما سئل إن كان استدعاء الشرطة والتهمة الموجهة له مثار قلق لديه، قال: "إن الشرطة لها واجباتها، وأنا كرجل دين لدي واجبي أيضا وهو أن أكون شاهدا على تأليف القلوب والالتقاء والتسامح والرحمة والمحبة".
وكان موقف الرئاسة للكنيسة السويدية مشرفا، حيث وقفت مع رجل الدين التابع لها وساندته وأدانت بأقسى العبارات عملية حرق المصحف وحملات الجماعات المتطرفة المناوئة للإسلام.
والكنيسة السويدية مؤسسة قوية وذات تأثير كبير. صحيح أن الأغلبية الساحقة من الشعب السويدي الذي يصل تعداده إلى نحو عشرة ملايين نسمة لا يمارسون أي طقوس دينية ولا يرتادون الكنائس، إلا أن الناس هنا تكن احتراما كبيرا للكنيسة ويدفعون الضرائب لها دون إكراه.
عالمنا بحاجة إلى أمثال هولرتز، رجل الدين السويدي الذي هزم عتاة المتطرفين في السويد بقرعة ناقوسه.
وذكرني هولرتز بأسقف نجران قس بن ساعدة الإيادي الذي كانت خطبه وهو متكئ على عصاه أو ظهر ناقته تهز سوق عكاظ وهو يخطب في الناس ويقول: "أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي