Author

الاقتصاد العالمي .. أزمة فوق أخرى

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"الحرب في أوكرانيا أثرت سلبا في التعافي الاقتصادي العالمي"
كريستالينا جورجييفا، رئيسة صندوق النقد الدولي
ستكون هناك محطات أساسية لإعادة صياغة المشهد الاقتصادي العالمي من أكثر من زاوية. الحالة الراهنة لهذا الاقتصاد تشكلت في الواقع بفعل المعايير والمتغيرات التي فرضتها الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. فهذه الأخيرة أجبرت العالم على إعادة النظر بقوانين - حتى بسلوكيات - مالية أدت إلى انفجار تلك الأزمة. بعد أقل من عقد ونصف تقريبا انفجرت أزمتان عالميتان متتاليتان. الأولى تلك الجائحة المخيفة التي ضربت العالم بوباء لم يتوقع أحد حدوثه، ولم تكن له أي إشارات مسبقة أو مقدمات. والثانية الحرب الجارية حاليا في أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، وهي حرب لا أحد أيضا يعرف أين وكيف ستنتهي، في الوقت الذي أوجدت مخاطر هي الأكبر على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية. فللمرة الأولى منذ انتهاء تلك الحرب يبرز الرعب النووي.
المشهد الاقتصادي العالمي مرتبك بفعل مرور أزمة اتصلت بأزمة أخرى دون فارق زمني على الإطلاق، ما دفع صندوق النقد الدولي أخيرا إلى التأكيد أنه سيخفض معدلات النمو للاقتصاد العالمي هذا العام، وإذا ما استمرت الأزمة، فإن الخفض سيكون حاضرا في العام المقبل على الأقل، علما بأن الدلائل الراهنة كلها لا تدل على أي مؤشر إيجابي على الأقل في المدى القصير. قبل انفجار الأزمة الروسية - الأوكرانية، وصلت معدلات التضخم إلى أعلى مستوى لها منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتم ذلك في الوقت الذي تعمق فيه اضطراب سلاسل التوريد التي كانت مهزوزة أصلا بفعل تداعيات أزمة كورونا على الساحة الدولية. وهذه الأخيرة أسهمت بالطبع في مزيد من الضغوط على المسار التضخمي العالمي، فضلا عن الإجراءات الحمائية الفورية التي اتخذها بعض الدول إلى أن تتضح الصورة تماما.
تداعيات الحرب المشار إليها تنتشر بسرعة، وبلغت مناطق جغرافية بعيدة جدا عن بؤرة القتال، إلى درجة أن الحديث صار يدور حاليا عن شروخ في النظام العالمي، سيدفع بالضرورة إلى إعادة رسم معالم جديدة لسلاسل التوريد. وهذه النقطة محورية جدا، لروابطها في تأمين الإمدادات الضرورية، وارتفاع تكاليف العيش التي باتت لا تحتمل في الدول الفقيرة والأشد فقرا. روسيا وأوكرانيا تتصدران قوائم الدول الأكثر تصديرا للغذاء، ولا سيما الحبوب وزيوت الطعام المختلفة، في حين ضغطت أسعار الطاقة على الوضع العام، وسط مخاوف من انقطاع الإمدادات الروسية، خصوصا لعدد من الدول الأوروبية. فالقارة العجوز تعتمد على نحو 40 في المائة من نفط وغاز روسيا، في حين أن البدائل ليست جاهزة وتتطلب وقتا طويلا، بينما لم تحقق الإمدادات الأمريكية الطارئة لأوروبا أي هدف في هذا المجال.
وإذا ما أضفنا التحولات التي أقدمت عليها البنوك المركزية في تخفيف حزم الدعم، ورفع أسعار الفائدة لاحتواء التضخم. فنحن أمام مشهد معقد للغاية. فلا هذه البنوك قادرة على كبح جماح التضخم، ولا تستطيع في الوقت نفسه تحمل الضغوط المعيشية على المواطنين حتى إن صندوق النقد الدولي أشار في أكثر من مناسبة إلى اضطرابات سياسية قد تظهر قريبا في هذه المنطقة أو تلك نتيجة لذلك. دون أن ننسى، أن رفع الفائدة من قبل البنوك المركزية سيرفع بالضرورة تكلفة الاقتراض للأسواق الناشئة والدول النامية عموما. وهذه الأخيرة تعاني أصلا ارتفاع مستوى مديونياتها، وزادت الضغوط عليها بعد أن انكمشت اقتصاداتها لأكثر من عام بفعل الأزمة الناجمة عن كورونا رغم إقدام الدول الدائنة على تخفيف شروطها خلال الأزمة المشار إليها.
وبعيدا عن مساعي صندوق النقد الدولي لجمع نحو 45 مليار دولار من أجل صندوق ائتماني جديد لمساعدة الدول منخفضة الدخل والهشة، فالأزمة الراهنة تشمل العالم أجمع، بما فيها الدول المتقدمة التي بات بعضها يطرح "كوبونات" الإعانة لشرائح من مواطنيه لمواجهة تكاليف الحياة. مع ضرورة الإشارة هنا، إلى أن العلاقات الاقتصادية عموما لم تكن على ما يرام حتى قبل تفشي وباء كورونا. كان العالم يعيش معارك تجارية حتى بين الحلفاء أنفسهم. لكن في النهاية كان هناك مسار للنمو مقبول، مع تقدم بعض الدول فيها، ولا سيما الناشئة منها. بالطبع لا شيء يمكن أن يخفف بؤس المشهد الاقتصادي العالمي سوى الحلول السياسية. ففي الحروب كل الأطراف خاسرة، بصرف النظر عن تباين الخسائر بين جهة وأخرى.
الأوليات واضحة الآن وهي آثار كورونا التي لا تزال موجودة، وتداعيات الحرب في أوكرانيا، ولا يمكن مواجهتها إلا عبر التعاون الدولي. لكن سؤال مهم يبرز هنا: هل بالإمكان الوصول إلى هذا التعاون في زمن الأزمات، بينما لم يكن حاضرا بقوة في وقت الاستقرار والنمو؟ يصعب بالطبع ضمان التعاون المنشود في ظل مواقف متباعدة ومتشددة حتى متطرفة. كل ما يحتاج إليه العالم في هذا الوقت بالذات، هو الحوار الحقيقي ليس من أجل السلام، فهذا أمر بعيد المنال حاليا، بل لاحتواء الكوارث الاقتصادية المعيشية التي باتت تضرب القريبين من ساحات المعارك والبعيدين عنها.
إنشرها