عملية موازنة دقيقة «2 من 2»
في أوقات الأزمات، تهيمن الاتجاهات السياسية المالية على الجو العام، مثلما حدث وقت جائحة كوفيد - 19. لكن كانت هناك ظاهرة أخرى مهمة أثناء حالة الطوارئ التي أثارتها الجائحة، وهي تفاعل السياسة النقدية وسياسة المالية العامة عندما تكون السياسة النقدية مقيدة في ظل فرض مستوى أدنى فعلى الأسعار الفائدة الاسمية، والتلاعب بأسعار الفائدة هو الأسلوب الأساسي في عمل السياسة النقدية. وفي الولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان، شهدت العقود الأخيرة تراجعا كبيرا في تقديرات أسعار الفائدة الحقيقية المحايدة، وهو السعر الذي يدعم الاقتصاد بكامل إمكاناته، بينما يبقي التضخم قيد السيطرة، وهبوط السعر المحايد يعني ضمنا تزايد دور الحد الأدنى الفعلي في تقييد قدرة البنوك المركزية على تخفيض أسعار الفائدة لموازنة الطلب الآخذ في الهبوط، ما يسفر عن تراجع النشاط الاقتصادي والوظائف على حد سواء وانخفاض معدل التضخم إلى ما دون مستواه المستهدف.
هبطت أسعار الفائدة 2020 إلى ما يقرب من الصفر، لكنها لم تستطع أن تنعش اقتصادا شهد حالة من السقوط الحر أثناء الجائحة. وأسفر ذلك عن استخدام السياسة النقدية لأساليب غير تقليدية بشكل مكثف مثل التوجيه المسبق، أي: الالتزام بأسعار فائدة منخفضة لفترة طويلة، ومشترياتها من الأصول لدعم الطلب والأسعار، لكن حتى في ظل القيود التي حدت من قدرة السياسة النقدية على التأثير في الاقتصاد، اتسع حيز التصرف المتاح من سياسة المالية العامة، فقامت الحكومات بتخفيض الضرائب وتوجيه الموارد نحو الأسر والشركات كي تعوضها عن آثار الجائحة التي شملت الإغلاق العام، وفقدان أعداد هائلة من الوظائف، وتراجع الطلب الذي هدد بتراجع حاد في معدل التضخم. وأصبح للسياسة المالية العامة دور فعال في تحقيق استقرار التوقعات، ودعمت هدف السياسة النقدية بتحقيق استقرار الأسعار في الوقت المناسب. فقوة سياسة المالية العامة تبلغ أوجها عندما تكون الحاجة إليها في ذروتها.
وكان جون ماینارد كینز، رائد ما يطلق عليه الاقتصاد الكينزي الذي أثمر السياسة النقدية وسياسة المالية العامة، قد حذر 1923 في كتابه بعنوان A Tract on Mone - flary Reforms أن العوام يدفعون ثمن ما تنفقه الحكومة. ولا يوجد شيء اسمه عجز غير مغطى، وتعكس هذه الملاحظة الحقيقة التي لا مفر منها وهي وجود قيود على ميزانية الحكومة. وأحد الأنشطة المهمة لصندوق النقد الدولي والمنصوص عليها في اتفاقية تأسيسه، هو توفير الموارد للدول الأعضاء فيه لدعم قدرتها على تصحيح الاختلالات، مثل توقف التمويل الخارجي على نحو مفاجئ، أو عدم استدامة الموارد العامة، أو وقوع أزمة مصرفية، دون اللجوء إلى اتخاذ إجراءات جذرية تهدد الرخاء الوطني والدولي. والهدف من إتاحة موارد صندوق النقد الدولي هو بناء الثقة أثناء الأزمات، عندما تكون الدول قد فقدت قدرتها على الاقتراض من الأسواق المفتوحة، أو كانت مهددة بفقدانها. ومع هذا، ففي ظل هذه الظروف لا مفر من تصحيح الموازنة ويجب أن يكون هذا التصحيح متوافقا مع التمويل المتاح الذي عادة ما يصل إلى أقصى درجات الندرة عندما وحيثما تبلغ الحاجة إليه أوجها.
وكانت الاقتصادات المتقدمة والصين قد أسهمت 2020 بما يزيد على 90 في المائة من تراكم الدين العام والديون الخاصة غير المالية. أما حصة بقية الدول، فلم تتجاوز نحو 7 في المائة. ويتوقع عودة الاقتصادات المتقدمة والصين إلى مسار النمو الذي كانت عليه قبل جائحة کوفید - 19 خلال العام إلى الثلاثة أعوام المقبلة. ومقابل ذلك، يتوقع قصور النمو في الاقتصادات النامية عن المستويات التي كانت متوقعة قبل الجائحة، نظرا لما تعرضت له من قيود حادة في قدرتها على التصدي لها. ويثير انخفاض توقعات النمو وكذلك التراجع المستمر في الإيرادات الضريبية مخاوف كبيرة بشأن القضاء على الفقر، وبشكل أعم، من عدم تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي اتفق عليها 190 بلدا في 2015. والغرض من تلك الأهداف الـ17، أن يتمكن العالم من القضاء على الفقر المدقع، وإتاحة الفرص وتنمية القدرات للجميع. ويشكل التمويل وتعبئة الإيرادات أداتين رئيستين تمكنان من تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وقد قدم المجتمع الدولي الدعم الضروري في عامي 2020 و2021، لكن هناك حاجة ماسة إلى المزيد.