عملية موازنة دقيقة «1 من 2»

مع بروز أهمية سياسة المالية العامة حديثا، يجب على الحكومات أن تعاير سياساتها بدقة في أعقاب الجائحة.
الأزمة المالية العالمية عام 2008، كان الإجماع العام في الآراء يذهب إلى أن أهم ما يمكن أن تسهم به سياسة المالية العامة في السياسة الاقتصادية الكلية هو تجنب التحول إلى مصدر لعدم الاستقرار. والمقصود بذلك هو أنه بينما سياسات الضرائب والإنفاق العامة السليمة كانت تعد أساسية لتحقيق الاستقرار المالي، كانت السياسة النقدية، بتركيزها على استقرار الأسعار هي التي ستحقق المستوى الأمثل من الناتج وفرص العمل. فلم تكن مساهمة سياسة المالية العامة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي غير ضرورية وحسب، فلم يكن دورها مرغوبا فيه أيضا، لأن التغيرات في سياسة المالية تأتي بفترات تأخر طويلة، ومن شأن التوجهات السياسية أن تتمخض عن سياسات غير سليمة.
أما المؤسسات التي ترتكز عليها المالية العامة وقواعدها وإجراءاتها التي حافظت على التزامن بين الإنفاق والضرائب، فكانت تعد هي العناصر الرئيسة في ضمان سلامة الموارد العامة. ولم يكن الدور الرئيس لسياسة المالية العامة هو الحفاظ على استقرار الأسعار أو تحقيق استقرار الناتج، وإنما كان دورها يتمثل في تحقيق النمو المستدام والاحتوائي طويل المدى، وتطلع كثيرون إلى الآثار التي تحدثها الضرائب والنفقات الحكومية في تخصيص الموارد وتوزيعها. خلاصة القول هي أنه رغم المساهمة المحدودة من سياسة المالية العامة في تحقيق الاستقرار، إلا أن دورها كان محوريا في الأولويات الاقتصادية الكلية التي يتحدد على أساسها الرخاء النسبي في الدول ومدی رفاهية الأجيال المتعاقبة وقدراتهم.
أما في عام 2020، في خضم التحرك لمواجهة جائحة كوفيد - 19 اضطلعت سياسة المالية العامة بدور حيوي نحو تحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي. ومع هبوط الأسعار والطلب، وبينما كانت البنوك المركزية في كثير من الاقتصادات المتقدمة مكبلة بعدم قدرتها على إجراء مزيد من الخفض في أسعار الفائدة، اكتسبت سياسة المالية العامة أهمية جديدة في توفير الاحتياجات الحيوية للأسر والشركات التي كانت معرضة للمخاطر آنذاك، وفي الحد من تأثر إغلاق الشركات على النشاط الاقتصادي والوظائف، وطبقت إجراءات المالية العامة بحسم وسرعة.
رغم ما تقدم، كانت مكافحة آثار الجائحة تقتضي زيادة كبيرة في الإنفاق أفضت بدورها إلى عجز كبير في الميزانيات وبلوغ الديون الحكومية مستويات غير مسبوقة. ومن الملاحظ أن الارتفاع التاريخي في مستويات الدين العام كان مقترنا بانخفاض تاريخي في أسعار الفائدة، وصاحبه في الاقتصادات المتقدمة انخفاض تكلفة الفائدة على خدمة الدين العام. لكن الآن، مع ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة، تصبح المسألة هي كيف، وبأي سرعة، ستنخفض مستويات العجز والديون تلك. وهناك من الأسباب ما يدعو إلى إثارة المخاوف من أن عبء السياسات التي تهدف إلى تخفيض مستويات العجز والديون، مثل تخفيض النفقات وزيادة الضرائب سيقع معظمه على كاهل أولئك الأشد تضررا بالفعل من الجائحة، مثل مقدمي خدمات الرعاية، وأصحاب الأجور المنخفضة، والعاملين ذوي المهارات الأقل. وعلاوة على ذلك، هناك أيضا قلق في كثير من الدول من أن التقشف السابق لأوانه يمكن أن يهدد التعافي الاقتصادي.
وتقدم الولايات المتحدة مثالا مهما للقوة النافعة لسياسة المالية العامة النشطة. فقد انخفض الفقر في الولايات المتحدة بالفعل عام 2020، وهو العام الأول لتفشي جائحة كوفيد - 19، نتيجة للتوسع الهائل في شبكة الأمان الاجتماعي، وكان معدل مقياس الفقر التكميلي حسب مكتب التعداد الأمريكي - وهو على عكس معدل الفقر الرسمي، يأخذ في حسبانه المساعدة الحكومية للأسر والأفراد - قد بلغ 9.1 في المائة من السكان في 2020، أي: أقل بمقدار 2.6 نقطة مئوية عما كان عليه عام 2019. وتبرز هذه المسألة بشكل أكبر، نظرا لارتفاع معدل الفقر الرسمي بمقدار نقطة مئوية واحدة ليصل إلى 11.4 في المائة "بزيادة بلغت 3.3 مليون نسمة". وجاء توسع شبكة الأمان الاجتماعي في الولايات المتحدة "الذي تضمن شيكات الدعم وزيادة إعانات البطالة" ليعوض تأثير فقدان الأجور والوظائف ويتجاوزها خلال العام الأول للجائحة. وللحكومة دور خاص في حماية الفئات الضعيفة حينما تسوء الأوضاع، وقد أثبت عام 2020 قدرته على فعل ذلك. وليست الولايات المتحدة بحالة متفردة: فقد هبط الفقر كذلك خلال عام 2020 في دول أخرى مثل البرازيل. فالفقر وعدم المساواة يتأثران في أساسهما بالاختيارات السياسية ... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي