Author

الاقتصاد البريطاني والكساد

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"على العاملين في بريطانيا التوقف عن المطالبة بزيادة الأجور والرواتب"
أندرو بيلي، حاكم بنك إنجلترا المركزي
لم يكن ريشي سوناك وزير المالية البريطاني، يعتقد أنه سيحتل هذا المنصب بسهولة، لكن الظروف غير الطبيعية التي أدت إلى استقالة ساجد جافيد، الوزير السابق، الذي عاد للحكومة وزيرا للصحة، أوصلت سوناك إلى المنصب الأهم في الحكومة البريطانية بعد رئيسها. قدرات الوزير ليست قليلة، لكنه أتى إلى منصبه حاملا الأعباء التي تركتها جائحة كورونا اقتصاديا واجتماعيا في البلاد. فضلا عن المشكلات التي لم تنته حتى الآن، والمتعلقة بمسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، بكل مداخلها الإجرائية والقانونية والاتفاقات الثنائية الجديدة مع الشركاء الأوروبيين السابقين. في ظل هذا المشهد، ظهرت الصعوبات الخطيرة الآتية من الحرب في قلب القارة الأوروبية بين أوكرانيا وروسيا، بينما لا توجد في الأفق أي مؤشرات عملية لإنهائها في وقت قصير.
المصاعب الاقتصادية البريطانية كبيرة وتتطلب مساحة زمنية واسعة بالطبع لاحتوائها، وليس للسيطرة عليها، ما يرفع إمكانية أن يعود اقتصاد البلاد إلى حالة الكساد التي عاشها قبل عامين - كغيره من الاقتصادات الأخرى - بفعل تأثيرات كورونا. هنا تتعقد مهمة سوناك. فالنمو الذي حققته البلاد العام الماضي البالغ 7.5 في المائة، وكان الأسرع قياسا بالنمو في بقية دول مجموعة السبع، سيتآكل هذا العام. دون أن ننسى بالطبع أن كل الدول حققت نموا مرتفعا العام الماضي بعد انكماش خطير في العام الذي سبقه. فالنمو المرتفع كان في الواقع تعويضا عن انكماش، وبالتالي لا بد أن يكون عاليا. والنقطة الأهم أن يكون أكثر استدامة حتى لو كان في حدود متواضعة.
بريطانيا - كغيرها من الدول المتقدمة - تواجه وحش التضخم، ومثل غيرها أيضا أقدم بنك إنجلترا المركزي على رفع الفائدة ضاربا بسياسة التيسير الكمي، لأن التضخم بلغ حدودا لم تعد مقبولة بأي حال من الأحوال. فنسبته ستبلغ في الشهر المقبل - وفق "المركزي" - حدود 8 في المائة مع التشديد على أنها قد تزيد على 10 في المائة بحلول نهاية العام الجاري. في هذه الأثناء يبلغ العجز القياسي المتوقع 400 مليار جنيه استرليني، فضلا عن الديون الحكومية التي تجاوزت إجمالي الناتج المحلي. المشكلة الأخرى، أن وزير المالية سوناك، سينهي العمل ببرنامج الحفاظ على الوظائف نهاية الشهر المقبل، في حين سيصل عدد العاطلين عن العمل في وقت لاحق من هذا العام إلى 2.6 مليون عاطل. وفي ورقة بحثية صادرة عن كلية لندن للاقتصاد ومدعومة من جوردون براون رئيس الوزراء الأسبق، تمت الإشارة إلى أن نحو 900 ألف شركة صغيرة توظف 2.5 مليون شخص، تواجه خطر الإفلاس، إذا ما أوقفت الحكومة برنامج الإنقاذ الذي أطلقته لاستيعاب الآثار الاقتصادية الفادحة لكورونا.
هناك اتفاق بين جهات متعددة، على أن وقف أموال الإنقاذ قبل الأوان سيشكل كارثة على الاقتصاد الوطني. وهنا تكمن المشكلة، فليست هناك وسيلة أخرى ناجعة لكبح جماح التضخم سوى الإقدام على رفع الفائدة، ولا سيما في ظل وصول التضخم إلى مستويات مرتفعة بسرعة بفعل التأثيرات المستمرة للمواجهة الروسية الأوكرانية الحالية التي أسهمت بسرعة في رفع أسعار البترول والغاز الطبيعي والفحم في الأسواق العالمية التي زادت تلقائيا أسعار الوقود في بريطانيا وغيرها من الدول المستهلكة للطاقة، فضلا عن ارتفاع أسعار السلع عموما بسبب الاضطراب المتواصل لسلاسل التوريد، وزيادة تكاليف إنتاجها. كل هذا يطرح السؤال الأهم، وهو هل تتحمل المملكة المتحدة التخلي عن استراتيجية النمو؟ وهل يمكنها التمسك بها في ظل المعطيات الراهنة على الساحتين المحلية والخارجية؟
المسألة معقدة حقا أمام وزير المالية الذي يسعى بوضوح إلى خلافة رئيس الوزراء بوريس جونسون، في أول فرصة سانحة له. مكتب الإحصاء الوطني أكد أن مستويات المعيشة تراجعت إلى أدنى درجة لها في 30 عاما، بعد أن انخفضت الأجور قياسا بالتضخم. ومع الارتفاع المتواصل للتضخم، فإن تكاليف العيش المتزايدة ستضغط على البريطانيين بقوة. فمعدلات الفقر ارتفعت بالفعل في الأعوام القليلة الماضية، حتى قبل انفجار جائحة كورونا، ومن الطبيعي أن تستمر في الزيادة في العامين المقبلين على الأقل. علما بأن التضخم الراهن ليس عابرا، كما توقع بعض الجهات. فقد حضرت هذه الآفة لتبقى فترة طويلة قد تصل إلى منتصف العقد الحالي، وتعززت في ظل الآثار التي تتركها الحرب في أوروبا حاليا.
ليس أمام المشرعين الاقتصاديين في المملكة المتحدة سوى الاعتراف بالواقع المرير الحالي، خصوصا مع فشل مخططات النمو. وهم ليسوا وحدهم يعيشون هواجس هذا الفشل في ساحات الاقتصادات المتقدمة، إلا أن الحالة البريطانية أكثر حساسية من غيرها بفعل عدم وضوح الرؤية حتى اليوم، بشأن مصير العلاقة التجارية مع الاتحاد الأوروبي رغم مرور عامين على خروج بريطانيا نهائيا من هذا الاتحاد. بعض المسؤولين في الحكومة يعترفون علنا بأن توقعات النمو على المدى الطويل سيئة جدا جدا.
إنشرها