Author

التضخم يربك المشهد الاقتصادي

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"لن نقوم بتغيير السياسة النقدية إلا تدريجيا"
كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي

يبدو واضحا أن التضخم الذي تحول بالفعل إلى آفة حقيقية عالميا، بدأ يربك واضعي السياسات النقدية هنا وهناك، ولا سيما في ساحات الاقتصادات المتقدمة. وتعزز الارتباك أكثر مع الارتفاع الأخير لأسعار الطاقة بكل أنواعها، من جراء الحرب الدائرة حاليا بين روسيا وأوكرانيا، مع احتمال وصول سعر برميل النفط إلى 300 دولار، إذا ما طال أمد الحرب أولا، وتوقفت الإمدادات الروسية، سواء من جانب موسكو أو بفعل إجراءات عقابية جديدة قد تتخذها أوروبا تماشيا مع تلك التي اتخذتها الولايات المتحدة أخيرا على صعيد الطاقة. فحتى أسعار الفحم الحراري الذي من المرجح أن يسد نقصا متوقعا لاحقا، بلغت مستويات لم يتوقعها أحد في الأسواق، ناهيك عن أن روسيا تعد من أكبر الدول المصدرة لهذه المادة غير الصديقة للبيئة والمناخ.
ليس أمام البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة سوى اللجوء إلى العلاج الوحيد لكبح جماح التضخم، وهو رفع معدلات الفائدة بصرف النظر عن أي اعتبارات تخص النمو المستهدف. لا خيارات أخرى في ظل ساحة اقتصادية دولية تعاني توترات ما بعد جائحة كورونا، والانعكاسات المخيفة للحرب الدائرة في أوروبا. فبرامج التيسير الكمي باتت تتحول شيئا فشيئا إلى عبء على الحكومات في هذه الدولة أو تلك. والفائدة الصفرية التي كانت سائدة طوال العامين الماضيين آن لها أن تنتهي، الأمر الذي يفسر (مثلا) إقدام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) على رفع الفائدة مطلع هذا العام، وتعهده بمواصلة رفعها تدريجيا من الآن حتى نهاية العام الجاري.
اللافت أن عددا كبيرا من المشرعين النقديين الذين عرفوا بتمسكهم بعدم رفع الفائدة، بدأوا يتحدثون حول ضرورة إعادة النظر في برامج شراء السندات، أو على الأقل إعادة تقييم هذه البرامج، وفق المعطيات الراهنة لمستويات التضخم. والواضح أن ضغوط أسعار الطاقة التي رفعت التضخم أكثر، كانت سببا رئيسا لتعديل مواقفهم. فقد بلغ التضخم في منطقة اليورو الشهر الماضي 5.8 في المائة، ليصل إلى أعلى مستوى له منذ إطلاق العملة الأوروبية الموحدة، بينما حددت الحد الأقصى المسموح به للتضخم عند 2 في المائة. فالفارق كبير وخطير أيضا. والأمر ليس أفضل في الولايات المتحدة وبريطانيا. فهذه الأخيرة أقدمت أخيرا أيضا على رفع الفائدة، وإن بمستويات متواضعة، بغية السيطرة على التضخم الذي بلغ أعلى مستوياته أيضا منذ أربعة عقود.
مسألة التضخم لا ترتبط بارتفاعات جديدة لأسعار الطاقة فقط، بل تشمل أيضا زيادات كبيرة في أسعار السلع والغذاء، وتأثيرات اضطراب سلاسل التوريد. فعلى سبيل المثال، رفعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا أسعار الحبوب، ولا سيما القمح، خصوصا أن هاتين الدولتين تتمتعان بقدرات إنتاجية وتصديرية هائلة للحبوب بشكل عام. من هنا، بات التضخم المشكلة الأكثر إلحاحا أمام الحكومات، التي تعاني عجزا ماليا طويلا أصلا، ولا سيما بعد أن ضربت الاعتقاد الذي كان راسخا قبل اندلاع الحرب المشار إليها، بأن التضخم المرتفع سينخفض من تلقاء نفسه إلى ما دون هدفه البالغ 2 في المائة في أوروبا بحلول نهاية العام الحالي. الواضح هنا، أن مستوى التضخم سيظل مرتفعا لفترة أطول، يعتقد بعض المشرعين أن يستمر حتى منتصف العقد الجاري.
الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا يبدو متطابقا مع الوضع في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو. فالتضخم ارتفع في هاتين الدولتين إلى مستويات اعتبرت من قبل السياسيين مخيفة، وينبغي التوصل إلى حلول ناجعة وسريعة لها. والأمر لا يتعلق بالقضاء على التضخم، لأن أيا من هذه الحكومات لا يمكنها أن تحقق ذلك، لكن كل ما تستطيع فعله هو كبح جماحه، أو السيطرة على ارتفاعاته في عالم متغير مليء بالمفاجآت، وخصوصا تلك الآتية من الحرب الدائرة في قلب القارة الأوروبية. حرب هي الأخطر منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، لسبب واحد فقط، وهو أن أطرافها يتمتعون بقوى نووية مدمرة، يضاف إلى ذلك أن المؤشرات على إمكانية التوصل لحلول سياسية قريبة لها ليست حاضرة على الساحة، ناهيك عن ويلاتها الاجتماعية التي بدأت منذ يومها الأول.
الخوف الآن أن تفشل الحكومات في الاقتصادات المتقدمة في السيطرة على التضخم، ولا سيما إذا ما صدقت بعض السيناريوهات التي تختص بإمدادات الطاقة، بما في ذلك الارتفاعات التاريخية الهائلة المتوقعة لأسعارها. فعندما وصل سعر برميل النفط عند حدود 120 دولارا، انتقل ذلك على الفور إلى ساحة التضخم، بحيث زاد إنفاق الأسر في المتوسط إلى ما قيمته 1200 دولار في العام على الوقود، وإذا ما استمر على ما هو عليه، فسترتفع بالضرورة معدلات الفقر في المجتمعات الغربية. من هنا، لا بد للبنوك المركزية الرئيسة أن تتقدم بجرأة أكبر وترفع الفائدة بصورة دورية وبمعدلات ليست متواضعة علها تمتص ضربات التضخم، إلى أن تتضح الصورة العامة تماما. التضخم عادة لا ينال من الناس فقط، بل يستهدف مستقبل السياسيين أيضا.
إنشرها