Author

اليابان تودع إيشيهارا المثير للجدل

|
ودعت اليابان أخيرا واحدا من أكثر سياسييها إثارة للجدل بسبب مواقفه الشعبوية والتمييزية، بحيث لم يبق له صديق في الداخل أو الخارج سوى أولئك المنتمين للجماعات القومية المحافظة. والإشارة هنا إلى شينتاروا إيشيهارا عمدة طوكيو الأسبق الكاتب والروائي والمخرج الذي فاز بمنصبه لأول مرة كشخصية مستقلة في 1999، ثم تم انتخابه بعد ذلك مرتين في 2003 و2007 بسبب ما نفذه من خدمات وإصلاحات للعاصمة التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 13 مليون نسمة، ويصل اقتصادها إلى 2.3 مليار دولار، قبل أن يستقيل من عمادة طوكيو فجأة في 2012 ويقرر اعتزال الحياة السياسية في كانون الأول (ديسمبر) 2014.
اختلف الناس حوله دوما، لكن كثيرين، ومنهم رئيس الحكومة الأسبق شينزو آبي، أشادوا بجرأته في قول ما يؤمن به صراحة وعلانية وثباتا دون خوف أو مواربة أو دبلوماسية مقنعة، أي على خلاف الساسة الآخرين، إذ ظل يردد دوما "سأقول ما أريد وأفعل ما أريد إلى يوم مماتي ولا يهمني إن كرهني الناس". وتجلى تباين الموقف منه في الصحافة اليابانية بعد الإعلان عن وفاته، فمثلا صحيفة "يوميوري شيمبون" اليمينية المحافظة، التي تعد من أكبر الصحف اليابانية، تسترت على خطابه العدواني المستفز، وتعاملت مع رحيله على أنها مأساة وطنية. أما بقية الصحف فقد امتلأت بمقالات حول حياته الأدبية وصراحته وجرأته. ورغم أن من فضائل الشعب الياباني ألا يتكلم بالسوء عن الموتى، إلا أن البعض خالف القاعدة بحجة أن إيشيهارا نفسه خالفها، وكان من بين هؤلاء كاتب المقالات الشهير كاوري شوجي، الذي لخص موقفه منه في جملة "كان الرجل يمينيا نخبويا وعنصريا وكارها للنساء"، في إشارة إلى دعوات إيشيهارا التمييزية العلنية ضد النساء العاقرات والمعوقين والفئات الضعيفة غير المنتجة والصينيين والكوريين.
في 1989 وضع بالاشتراك مع "أكيو موريتا" رئيس شركة سوني كتاب "اليابان التي يمكن أن تقول لا" الذي ظل لأعوام من أكثر الكتب مبيعا بعد نشره بالإنجليزية في 1991. في هذا الكتاب دعا مواطنيه إلى مقاومة الغطرسة والاستعلائية الأمريكية تجاههم، متهما الولايات المتحدة بالعنصرية في قوله: "الولايات المتحدة قصفت عديدا من المدن الألمانية وقتلت الآلاف من المدنيين، لكنها لم تستخدم القنابل الذرية على الألمان. لقد أسقطتها الطائرات الأمريكية علينا فقط لأننا يابانيون، وهي تمارس العنصرية نفسها اليوم تجاريا مع بلادنا". وعبر في مناسبات عديدة عن أفكار ومواقف مماثلة ناقدة للسياسات الأمريكية. ففي كلمة له في نيويورك في 2007 أثناء اجتماع لجمعية التبادل الثقافي الياباني الأمريكي، قال إن المدى الذي ستذهب إليه واشنطن في الدفاع عن اليابان أمر مشكوك فيه، وبالتالي فليس أمام اليابان سوى امتلاك الأسلحة النووية الرادعة لتهديدات الصين وكوريا الشمالية حتى لو رفضت واشنطن. وفي مناسبة أخرى، انتقد بشدة سياسات اليابان الخارجية والدفاعية، ووصفها بـ"المعيبة" لأنها تـخضع مصالح اليابان الأمنية لاستراتيجية أمريكا العالمية، وتدفع نفقات الوجود العسكري الأمريكي فوق التراب الياباني. كما سلط الضوء على الحاجة إلى بناء العلاقات اليابانية الأمريكية على قدم المساواة ، قائلا: "يجب على شعبي اليابان والولايات المتحدة تجديد الوعي بأن اليابان لم تكن أبدا دولة مثل بورتوريكو (التي تحكمها الولايات المتحدة)".
لم يكتف إيشيهارا بانتقاد الأمريكيين، وانما أشهر سيفه أيضا في وجه الصينيين، متسببا في توتر علاقات بلاده مع بكين. فقد قال ذات مرة إنه إذا ما صار رئيسا للحكومة، فإنه سيشن حربا ضد الصين. وفي نيسان (أبريل) 2012، أعلن أن بلدية طوكيو ستحمي جزر سينكاكو في محافظة أوكيناوا من الصين عبر شرائها من ملاكها اليابانيين وستحولها إلى أحواض لبناء السفن. وقتها خافت الحكومة اليابانية من رد فعل مبالغ من قبل الصين التي تطالب بالجزر وتسميها "دياويو"، فقررت تأميمها، ليشتعل التوتر بين الدولتين. وحينما رحّلت الحكومة اليابانية في آب (أغسطس) 2012 ، ناشطين صينيين دون محاكمة بعد وصولهم إلى الجزر المتنازع عليها ورميهم سفينة دورية تابعة لخفر السواحل الياباني بالحجارة، ندد بقرار الحكومة ووصف موقفها بالمثير للشفقة قائلا إنها تخدم مصالح الصين وتعزز موقفها، مضيفا: "الأمة غير القادرة على تطبيق قوانينها فوق أراضيها ليست أمة".
وبمثل ما أثار الرجل الصينيين فقد أثار الكوريين أيضا، بفتحه ملفات الماضي الدامي. إذ أنكر قيام الجيش الإمبراطوري بارتكاب فظائع في زمن الحروب، وبالتالي رفض دبلوماسية الاعتذار، ورفض معه الاعتراف بقضية "نساء المتعة والعمال السخرة" التي توتر العلاقات بين طوكيو وسيئول. وعلاوة على ذلك سجل عنه قوله: "إن الكوريين اختاروا ضم اليابان إلى بلدهم في 1910، فكان الضم خطأ أسلافهم. أما حكم اليابان لبلادهم فلئن كان في شكل استعمار، إلا أنه كان متقدما وإنسانيا".
ومن مواقف إيشيهارا الأخرى المثيرة للجدل: تأليه القومية اليابانية، وتبجيل المشاريع الإمبريالية اليابانية في آسيا قبل 1945، ودعوته إلى إلغاء "الدستور السلمي" لليابان، باعتباره دستورا وضعه وفرضه الأجنبي، ورفضه تغيير مضامين كتب التاريخ المدرسية أو وقف زيارات المسؤولين لمقابر ياسوكوني التي تضم رفات جنود اليابان الذين حاربوا دفاعا عن الإمبراطور والبلاد منذ عهد ميجي، وتبريره مشاركة اليابان في الحرب، بقوله "لم يكن لدينا خيار سوى القتال، ولو لم تشارك اليابان في الحرب، لكان العالم اليوم كما كان حيث البيض يفرضون استعمارهم على الملونين".
إنشرها