يوم التأسيس .. اعتزاز بالجذور ووفاء لذاكرة أمجاد دولة
ثلاثة قرون من الفخر والمجد، أعادنا إليها الأحفاد لنستذكر تاريخ الأجداد وأمجادهم، ونستحضر فيها بطولات مملكة من أعرق دول العالم الحديث، باتت دولة عصرية تتطلع إلى المستقبل المشرف، وطموحها عنان السماء.
على ضفاف وادي حنيفة، أرسى الأمير مانع المريدي – الجد الـ13 للملك سلمان بن عبدالعزيز – لبنة الدرعية الأولى في 1446م، التي مهدت لقيام الدولة السعودية الأولى في 1727م على يد الإمام محمد بن سعود، واختار الدرعية عاصمة لأعظم مدن الجزيرة العربية آنذاك، لتكون مناسبة وطنية خالدة، يحتفي السعوديون بها عبر "يوم التأسيس".
ومن الدرعية إلى الرياض، حيث انطلقت الدولة السعودية الثانية في 1824 على يد الإمام تركي بن عبدالله، واشتهر بسيفه "الأجرب"، ثم الدولة السعودية الثالثة في ١٩٠٢م، التي توجت بالتوحيد والبناء بإعلان المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه – توحيد المملكة العربية السعودية، في دلالة على عمق الدولة تاريخيا وسياسيا، ككيان عريق ليس طارئا على التاريخ، وإنما دولة موغلة وضاربة في القدم.
المؤرخ الأول متحدثا
منذ الأمر الملكي الكريم بالإعلان عن "يوم التأسيس"، تداول السعوديون فيديو نادرا، يتحدث فيه عن سبب تسمية مهد الدولة السعودية "الدرعية" بهذا الاسم، وقال خادم الحرمين الشريفين "يعود بي الزمن إلى 850هـ، عندما رحل مانع المريدي من بلدته الدرعية في المنطقة الشرقية، تلبية لدعوة ابن عمه ابن درع في الرياض، حيث أقطعه غصيبة والمليبيد في الدرعية، في هذا المكان في وادي حنيفة"، وتابع الملك سلمان "سميت بالدرعية على مانع المريدي، وهنا جاء اسم الدرعية، وللمعلومية البلدة القريبة من القطيف سميت بهذا الاسم الدرعية، نسبة إلى هذه القبيلة، قبيلة الدروع".
وكانت الدرعية لها أهمية كبيرة قبل قيام الدولة السعودية، كونها أهم مدن الطريق التجاري من شرق الجزيرة العربية إلى غربها، ونقطة عبور مهمة للحجاج القادمين من الشرق، أسس فيها الإمام محمد بن سعود الدولة السعودية، التي كان لها دور في أمن منطقة نجد والحجاج، ومرتكزا لبقية القبائل في الجزيرة العربية، فعادت الأهمية المفقودة لنجد في القرون السابقة.
وحدد يوم 22 شباط (فبراير) لـ"يوم التأسيس"، يعود إلى أن بداية عهد الإمام محمد بن سعود منتصف 1139هـ، الموافق تقديرا 30 / 06 / 1139هـ.
المدينة الدولة
بداية فكرة تأسيس الدولة، يتحدث عنها لـ"الاقتصادية" الدكتور إبراهيم بن عطية الله السلمي أستاذ التاريخ في جامعة أم القرى، ويروي أن المنطقة عانت نحو ألف عام الإهمال السياسي، ولا سيما أن القوة كانت خارج الجزيرة العربية، ولم تقم بها سوى الدولة الأخضيرية في القرن الثالث الهجري، جنوب شرق منطقة نجد، وهذا البعد عن وسط الجزيرة العربية، إضافة إلى بعض العوامل البيئية، أدى إلى افتقار المنطقة إلى تنظيم يعتني بالناس الساكنين فيها، فعانى مجتمع الجزيرة كثيرا من الضعف والتفكك.
الإمام محمد بن سعود هو من أصل لقيام كيان سياسي يجمع المجموعة، وكان جده مانع المريدي مؤسس مدينة الدرعية، الفكرة بدأت مع الإمام محمد بن سعود بإنشاء الدولة السعودية، مستفيدا من موقع الدرعية الاستراتيجي على وادي حنيفة، وهي منطقة زراعية، بدأ حينذاك يتكون لها الجانب الحضاري.
ويضيف الدكتور السلمي أن الجانب العلمي كان ضعيفا جدا، والكتابة عن الجزيرة العربية من الأمور الصعبة، وكانت تكتب، من الآخر، خارج الجزيرة العربية.
الاستقرار وأمن الحجيج
ومن الضعف والتفكك إلى الاستقرار، حيث تضعنا الدكتورة فاطمة الفريحي أستاذة التاريخ الحديث في جامعة القصيم في صورة الأحداث التي كانت تدور قبل نحو ثلاثة قرون، وتذكر أن الحالة السياسية قبل عهد الإمام محمد بن سعود كانت مضطربة وتسودها الصراعات والنزاعات، ولم تكن هناك قوة تجمع وتوحد، فكانت شبه الجزيرة العربية مقسمة إلى إمارات متناحرة تتبع النظام القبلي، وكانت المنطقة تعاني الضعف والتفكك وعدم الاستقرار، وكانت تسودها حالة من الفوضى نتيجة التفكك الاجتماعي، السياسي، والديني، واقتتال دائم بين المدن والقبائل، وما إن تولى الإمام محمد بن سعود إمارة الدرعية في 1139هـ حتى قاد البلاد إلى مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة وأسس الدولة السعودية الأولى.
وحول اختيار 22 شباط (فبراير) يوما للتأسيس، أوضحت الفريحي أن اختيار العام كان دقيقا، ليوم مناسبة وطنية يستذكر فيها السعوديون تاريخ تأسيس الدولة السعودية الأولى، قبل أكثر من ثلاثة قرون.
الدرعية – وفقا للدكتورة فاطمة الفريحي – لها استراتيجية جغرافية، فقد كانت محط قوافل تجارية، وتقع على وادي حنيفة، أهم أودية منطقة نجد، ما منحها اكتفاء ذاتيا، وحافظ أهلها على أمن الحجاج، بجهود الإمام محمد بن سعود وأبنائه من بعده، فباتت ذات سمعة وشهرة وصيت طيب، مضيفة أن الإمام محمد بن سعود كان ذا نظرة ثاقبة وبعد نظر، حول الدرعية إلى دولة واسعة، وجعلها عاصمة الجزيرة العربية، وأصبحت بعد التأسيس ذات مركز قوي واستقرار داخلي، وحكم راسخ، وهاجر إليه كثيرون من مناطق مختلفة من جزيرة العرب بخلاف البلدان الأخرى المحيطة بها، اتسم عهده بالأمن وتطبيق الشريعة في مناحي الحياة كافة، ونتيجة لقيام الدولة السعودية الأولى واستقرار أوضاعها ظهر كثير من العلماء وازدهرت الناحية العلمية والاقتصادية، وأصبحت تتمتع بمكانة سياسية عظيمة نتيجة لقوتها ومبادئها الإسلامية واتساع رقعتها الجغرافية وسياسة حاكمها المتزنة المعتمدة على نصرة الدين الإسلامي.
تمكن الإمام محمد بن سعود من توحيد مناطق نجد، وقاد الحملات بنفسه أو أسندها إلى أبنائه، وعقد معاهدات مع القبائل في طريق التجارة، حتى يأمن على سلامة الحجاج، وازدهرت الحياة التجارية في الدرعية.
وحدة الصف
وتابعت الدكتورة فاطمة الفريحي حديثها بأن الإمام محمد بن سعود أمر في زمنه ببناء حي جديد في سمحان، وهو حي الطرفية، وانتقل إليه بعد أن كان في حي غصيبة، وهو مركز الحكم لفترة طويلة، وعمل على نشر الاستقرار، وتصدى للحملات التي حاولت القضاء على دولته، وعمل على الاهتمام بالأمور الداخلية وتقوية مجتمع الدرعية وتوحيده من الفرقة إلى وحدة الصف.
وأضافت أن يوم التأسيس مناسبة نتذكر فيها امتداد المملكة لأكثر من ثلاثة قرون، دولة ذات عمق تاريخي وسياسي، ويختلف عن اليوم الوطني 23 أيلول (سبتمبر)، وهو مناسبة تذكرنا أيضا بالوحدة، حينما توحدت المملكة على يد مؤسسها الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، ويوافق تسميتها باسم "المملكة العربية السعودية".
قراءة جديدة للتاريخ
وعبر الدكتور محمد السلامة أستاذ التاريخ السعودي المشارك في جامعة القصيم عن اعتزازه بصدور الأمر الملكي بأن يكون يوم 22 شباط (فبراير) من كل عام يوما لذكرى تأسيس الدولة السعودية، الذي صدر من القائد المثقف والمؤرخ الملك سلمان بن عبدالعزيز، حرصا على إبراز الهوية الوطنية لأبناء المملكة وربطها معرفيا بمؤسس الدولة الإمام محمد بن سعود، ويفتح لنا كأساتذة تاريخ والطلاب والطالبات والمثقفين الباب لإعادة قراءة التاريخ والبحث أكثر في تاريخ تأسيس الدولة والأحداث المصاحبة لذلك، فالعمق التاريخي للدولة يحتاج إلى قراءة جديدة لإيضاح بعض المعلومات حول التأسيس.
وأضاف "سلسلة الحكم للعائلة المالكة تعود إلى نحو 600 عام، حينما أسس مانع المريدي - الجد الـ13 للملك سلمان - في عام ١٤٤٦م الدرعية، لكن التأسيس وتغيير شكل الحكم من المدينة الدولة إلى الدولة الواسعة حدث في عهد الإمام محمد بن سعود، الذي أسس الدولة الحديثة".
وأكد السلامة أن هذا القرار اعتزاز بالجذور الحقيقية الراسخة لتأسيس الدولة، يضع تاريخا سياسيا دقيقا للتأسيس، يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، ولا سيما أن رؤية المملكة 2030 تؤكد في ركائزها العناية بالتاريخ والتراث الوطني، ويوم التأسيس جاء ليرسخ قيمة مهمة وهي الانتماء الوطني، موروث قوي وثابت يعزز الدافعية لأفراد المجتمع، ويحفز عملية التكامل الاجتماعي داخل البلاد".
الإمام محمد بن سعود.. الشجاع الذي أسس الدولة
تشير المصادر التاريخية إلى أن الإمام محمد بن سعود كان معروفا بتدينه، وحبه للخير، كان شجاعا قادرا على التأثير في محيطه والآخرين، جاء توليه الحكم في ظروف استثنائية، فقد عانت الدرعية قبيل توليه ضعفا وانقساما للنزاع الداخلي، وكذلك انتشار مرض الطاعون في الجزيرة العربية، لكن الإمام محمد تخطى كل ذلك ووحد الدرعية تحت حكمه.
ولد في 1090هـ، ويذكر المؤرخون أن له أعمالا مهمة في طريقه للتأسيس، منها احتواء الأزمات والقلائل، والتواصل مع القبائل والبلدات للانضمام إلى الدولة السعودية الأولى، قاد الجيوش بنفسه ضمن حملات توحيد منطقة نجد، وتصدى لحملات القضاء على الدولة في بدايتها، كما أمن طريق الحج والتجارة، وبنى سور الدرعية للتصدي للهجمات الخارجية.
كان الإمام محمد بن سعود مستقلا سياسيا، لم يوال أي قوة، نشر الاستقلال والازدهار في الدولة، ونظم مواردها الاقتصادية، وحد شطري الدرعية، واهتم بشؤون الدرعية وقوى مجتمعها ووحد أفرادها، وقنن الحصول على الموارد للدولة وعدم الجور، كما أمر ببناء حي الطرفية.
كان الإمام محمد حكيما، تعلم السياسة وطرق التعامل مع الإمارات المجاورة والقبائل المختلفة، وأسهم في استتباب الأوضاع في الإمارة قبل توليه الحكم، كما تحلى برؤية ثاقبة مكنته من معرفة أحوال إمارته والإمارات التي حولها، ومنذ تولى الحكم باشر التخطيط للتغيير من النمط السائد حينئذ، وأسس لمسار جديد في تاريخ المنطقة، تمثل في الوحدة والتعليم ونشر الثقافة وتعزيز التواصل بين أفراد المجتمع والحفاظ على الأمن.
كما كان الإمام محمد بن سعود شجاعا حازما، يحب الخلوة والتأمل والتفكر، ما يدل على شخصيته في الاستقراء والتأني والرؤية المستقبلية، وكان معروفا بحسن السيرة والوفاء وحسن المعاملة، وكان رجلا كثير الخيرات والعبادة، مع الكرم والسخاء.
حكم نحو 40 عاما، توفي 1179هـ/ 1765م، وكان له أربعة أبناء هم عبدالعزيز، عبدالله، سعود، وفيصل.