تقارير و تحليلات

احتكار القلة لعمالقة التكنولوجيا نموذج مهدد بالتفتت

احتكار القلة لعمالقة التكنولوجيا نموذج مهدد بالتفتت

في تشرين الأول (أكتوبر) 2020 وفي وقت كانت فيه جائحة كورونا تعصف بالاقتصاد العالمي، أصدرت لجنة مكافحة الاحتكار في مجلس النواب الأمريكي تقريرا عن ضرورة مكافحة الاحتكار الذي تقوم به شركات التكنولوجيا العالمية.
التقرير الذي آثار ضجة حينها اتهم تلك الشركات بأنها تحافظ على مركزها الاحتكاري من خلال استخدام الكميات الهائلة من البيانات التي جمعتها عن المستهلكين والشركات الأخرى للتغلب على منافسيها، واكتساب ميزة في أسواق المنتجات الجديدة، وتقليل الابتكار من قبل الآخرين، وتوصل التقرير إلى خلاصة مفادها أن هذا السلوك مناف للمنافسة الاقتصادية، حتى وإن تم ضمن الأطر القانونية السائدة.
في الحقيقة لم يكن ما تضمنه التقرير مفاجئا لكثيرين، فمنذ أعوام تتعالى أصوات بعض الخبراء والأكاديميين لتحذر من مغبة تنامي الروح الاحتكارية لدى شركات التكنولوجيا الكبرى خاصة في الولايات المتحدة، لكن التقرير مثل دليلا ساطعا على الأبعاد المختلفة لتلك الروح الاحتكارية التي تسيطر على سلوك أكبر شركات التكنولوجيا الأمريكية.
أسهم التقرير في أن توضع شركات التكنولوجيا الأمريكية الرائدة مثل جوجل وأبل ومايكروسوفت وأمازون وفيسبوك على رادار المستهلكين، وتشكلت مجموعات تطالب بضرورة تقسيم شركات التكنولوجيا العملاقة، لتمتعها بقوة احتكارية ونفوذ ضخم على المستهلكين، إذ يقدر أن كل شركة من تلك الشركات تمتلك ما لا يقل عن 89 في المائة من حصة السوق في أعمالها الخاصة.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور سيمون لوتز أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة لندن، "عمالقة التكنولوجيا جميعا شركات ذات أهداف تجارية، وأكثر أشكال قوتها وضوحا اقتصادية وما تمتلكه من مقدرات مالية غير مسبوقة، ومن المتوقع أن تمثل خمس شركات - جوجل وأبل وأمازون وفيسبوك ومايكروسوفت - خمس إجمالي الأرباح المتراكمة بواسطة مؤشر إس آند بي 500 الأمريكي بحلول 2023، ويعد ذلك علامة على مدى تركيز الإمكانيات الاقتصادية لدى عمالقة التكنولوجيا، يضاف إلى ذلك أن القيمة السوقية للعمالقة الخمسة في مجال التكنولوجيا في الولايات المتحدة تبلغ 7.6 تريليون دولار، ومبيعاتها ستتضاعف في العقد المقبل".
ويضيف "تلك القوة المالية التي تتجاوز القدرة المالية لمعظم دول العالم، باستثناء الولايات المتحدة والصين، تجعل تلك الشركات سواء شاءت أم لم تشأ في وضع تتحكم فيه في مسار الاقتصاد العالمي في القطاع التكنولوجي الذي يعد المحرك الأبرز للنمو الاقتصادي في الدول المتقدمة، ومن ثم تصبح تلك الشركات عمليا هي التي تضع أولويات جدول الأعمال الاقتصادي الدولي، وتحدد الشكل العام للخريطة الاقتصادية الكونية".
إضافة إلى ذلك ترى أماندا ريتشارد الباحثة الاقتصادية أن شركات التكنولوجيا العملاقة تعمل على تعزيز وضعها الاحتكاري، عبر آليات متعمدة تكشف عن تصديها التام لأي جهود حقيقية لتفكيك وإضعاف قدرتها الاحتكارية.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن من خلال عمليات الاستحواذ المتواصلة على منافسيها، وعبر جعل الوضع سيئا جدا للمنافسين الواعدين لإخراجهم من السوق مبكرا، تتزايد هيمنة تلك الشركات على الاقتصاد، وقد أصبح عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة لديهم من القوة والسلطة ما يضر بالاقتصاد كله وبما يتناقض مع مصالح المستهلكين، عبر قيامهم بعملية خنق الابتكارات إذا لم تتفق مع مصالحهم، أو تعد خطرا على مكانتهم الاحتكارية، ما يتطلب مزيدا من التدخلات الحكومية لكسر تلك الاحتكارات".
لكن وجهات النظر التي تتهم شركات التكنولوجيا العالمية بممارسة السلوك الاحتكاري، تتجاهل في كثير من الأحيان أن شركات التكنولوجيا تعمل ضمن إطار القوانين السائدة، وليس بالتناقض معها، كما أن التدخلات التي قامت بها السلطات لم تحقق نتائج حتى الآن، حيث تم فرض غرامات ضخمة على تجاوزات بعض تلك الشركات مثل فيسبوك وجوجل، وفي حالة الأخيرة تحديدا فرضت المفوضية الأوروبية ما مجموعة 9.5 مليار دولار من الغرامات على الشركة منذ 2017، إلا أن قليلا من الأدلة يثبت أن مثل هذه العقوبات الهائلة تشكل رادعا لتلك الشركات، بل الأكثر خطورة أن أرباح تلك الشركات في تزايد.
وهذا ما يدفع البعض إلى النظر للأمر من زاوية أخرى تتعلق بالاحتكار كظاهرة متنامية في النظام الرأسمالي في العقود الثلاثة الأخيرة، إذ تهيمن على سبيل المثال في الولايات المتحدة أربع شركات على الرحلات الجوية، وتهيمن شركة بوينج على صناعة الطيران، وشركتان تتمتعان بوضع شبه احتكاري في مجال صناعة الأدوية، كما أن ظاهرة تنامي القدرة الاحتكارية لشركات التكنولوجيا ظاهرة لا تقف عند الشركات الأمريكية، حيث تمتد إلى الصين أيضا، إلا أن طبيعة النظام الأمريكي والصين تجعل أسلوب التعامل مع تلك الاحتكارات مختلفا.
من هنا يرى بعض الخبراء الاقتصاديين أن وجهات النظر التي تطالب بتفكيك احتكارات شركات التكنولوجيا إما أنها تتصف بعدم الواقعية، أو أنها في حاجة إلى إعادة نظر في منطقها، الذي يدعي أن تفكيك القوة الاحتكارية لتلك الشركات وتقسيمها سيحفز المنافسة ويخدم المستهلكين بشكل أفضل.
البروفيسور فيليب مارك أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة جلاسكو يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "هناك خلط بين شعبية شركات التكنولوجيا وهيمنتها، فإذا كانت إحدى العلامات التجارية لأي منتج أو خدمة لها ميزات فريدة تجعلها أكثر شهرة من غيرها، فهذا لا يجعلها احتكارا، فلا يمكن اعتبار أن شركة تبيع أكثر من أخرى لأن منتجها أفضل احتكارا. "فيسبوك" ليس احتكارا لأن لديه مستخدمين أكثر من "تويتر"، و"أمازون" ليس احتكارا لأن مبيعاته عبر الإنترنت أكثر من مبيعات "وول مارت"، و"أبل" ليس احتكارا لأن نظام تشغيل الهاتف المحمول الخاص بها أكثر شيوعا من "جوجل" على الأقل في الولايات المتحدة وليس العالم، فهذا لا يعد احتكارا".
ويضيف "عملية الاستحواذ التي تتهم بها شركات التكنولوجيا العملاقة تعد حافزا للكفاءة، وليست عائقا، لأنها تسمح للشركات بتعزيز الإنتاجية وتنويع المخاطر واكتساب وفرة الحجم الكبير أو النطاق. باختصار إنها تعزز ريادة الأعمال وتجعل الأسواق أكثر نجاحا".
يتفق إم. روجر الباحث الاقتصادي والمتخصص في الاقتصاد الأمريكي مع وجهة نظر البروفيسور فيليب مارك.
ويقول لـ"الاقتصادية" "لأن جميع هذه الشركات تقدم خدمات تتعلق بأجهزة الكمبيوتر فهناك ميل إلى تجميعها معا، بحيث يتم تصوير تلك الشركات باعتبارها صناعة واحدة، ما يجعل تأثيرها وتهديدها واحدا من وجهة نظر خصومها، وبصفة عامة فإن الثقافة الأمريكية الشعبية والاقتصادية والإعلامية تساعد على الترويج لهذا الفهم، ففي الولايات المتحدة وعندما تصبح الصناعة كبيرة جدا لدرجة أنها تمارس ضغطا سياسا على المجتمع، غالبا ما يصف الإعلام الصناعة كلها بأنها احتكارية، هذا حدث لصناعة النفط والتبغ والأدوية، لكن إذا دققنا النظر فيما يوصف بشركات التكنولوجيا فسنجد أن تجميعها معا يخفي حقيقة أنها منفصلة عن بعضها بعضا، ليس فقط كشركات، لكن من حيث كونها نماذج وممارسات في العمل".
ويعد الباحث إم. روجر فهم هذه الشركات في سياقات العمل الذي تقوم به يجعل من السهل فهم قوتها الحقيقية في السوق والمجتمع عموما، ويكشف أنها لا تتمتع بوضع احتكاري.
في الواقع فإن الخلاف بشأن احتكار شركات التكنولوجيا الأمريكية للأسواق يعد قضية جدلية الآن أكثر من أي وقت مضى خاصة مع تنامي الاقتصاد الرقمي، الذي يشكل حاليا نحو 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، أي ما يعادل الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة، ويوظف ما نحو ثمانية ملايين أمريكي.
فخصوم شركات التكنولوجيا يعدونها تهدد أجزاء أكبر وأكبر من الاقتصاد الرقمي، نتيجة عملية الاحتكار التي تمارسها.
في هذا السياق، يؤكد لـ"الاقتصادية" المهندس ويليام دين الخبير في مجال هندسة الإنترنت، أن الآلية الرئيسة في عمل تلك الشركات هي ما بات يعرف بـ"قوة المنصة"، حيث يمتلك جميع عمالقة التكنولوجيا بدرجات مختلفة أنظمة تربط بين الموردين والمستهلكين سواء كان ذلك بتوصيل المعلنين بالشبكة الاجتماعية أو مستخدمي محرك البحث أو مطوري التطبيقات بمالكي الأجهزة أو البائعين عبر الإنترنت بالمتسوقين، فبحكم طبيعتها تستفيد تلك الشركات من تأثيرات شبكة الإنترنت، فكلما زاد عدد المستهلكين الذين تكتسبهم زادت جاذبيتها للموردين، وبالتالي تكون النتيجة أن الفائز يحصل على كل شيء بينما تعني خسارة المنافسين خروجهم من السوق.
في المقابل تنفي شركات التكنولوجيا العملاقة الاتهامات الموجهة إليها بالاحتكار، أو ارتكاب أي مخالفات، وتؤكد أنها تتنافس بقوة ضمن القواعد.
وتستند في ذلك على عديد من الأبحاث التي أكدت أن شركة أمازون على سبيل المثال ليست احتكارا وأن سوق التجارة الإلكترونية في الواقع تتمتع بمنافسة شديدة، وكثير من بائعي التجزئة يتزايدون بمعدلات أسرع من معدلات نمو "أمازون" في مجال التجارة الإلكترونية، وأن الجميع منخرط في حرب أسعار شرسة، والمستهلك هو المستفيد الأبرز، إذ يحصل على سلع أرخص وتسليم أسرع وتنوع أكبر في توليفة السلع المتاحة له، وتدعي تلك الدراسات أن حصة "أمازون" السوقية الفعلية تبلغ نحو 40 في المائة في التجارة الإلكترونية، وأقل من 7 في المائة في تجارة التجزئة عموما، وهي ليست قريبة من الاحتكار بأي معيار.
الدكتورة أوليفيا جورج أستاذة الاقتصاد الجزئي والاستشارية السابقة في البنك الدولي تقر بأن هناك طابعا احتكاريا لدى شركات التكنولوجيا العملاقة خاصة في الولايات المتحدة، مشيرة إلى أن نمطها الاحتكاري يمكن توصيفه بأنه "احتكار قلة"، لكنها تؤكد أن هناك تغيرات تحدث الآن، وستكون لها نتائجها بنهاية العقد بحيث سيتغير المشهد الراهن، وتتفكك هياكل الاحتكار الحالية.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن شركات أخرى في مجال التكنولوجيا تحصل على زخم، فشركة ديزني البالغة من العمر 98 عاما، استحوذت على 116 مليون عميل جديد للبث المباشر في الـ18 شهرا الماضية، وشركة وول مارت البالغة من العمر 58 عاما جنت 38 مليار دولار من المبيعات عبر الإنترنت العام الماضي، وشركات التكنولوجيا المستقلة مثل شوب فاي في التجارة الإلكترونية وبي بال اخترقت بفضل الطفرة الرقمية التي سببتها جائحة كورونا الصورة النمطية لهيمنة الشركات الخمس الكبرى وتحقق الآن أرباحا جيدة".
وتعد الدكتورة أوليفيا الاحتكارات لدى شركات التكنولوجيا العملاقة ستتراجع نتيجة التدخلات الحكومية، والقوانين التي تحد من قوة تلك الشركات، وأيضا نتيجة المنافسة من اللاعبين الجدد، إضافة إلى التصلب الإداري الذي سينتاب تلك الشركات مع مرور الوقت وتضخم أحجامها، مبينة أن نموذج احتكار القلة سيتفتت بنهاية هذا العقد، لمصلحة نماذج ربما لا تضمن المنافسة الكاملة، لكن لن تكون احتكارية بأي شكل من الأشكال.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات