Author

من المستفيد من العنصرية المستترة؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
مقال الأسبوع هذا له منحى فكري. وهذا كان وسيبقى الهدف الرئيس لمحتواه. الفكر أي: العقل يبقى في سبات ولن يستيقظ إن لم نقم بإعماله أو تشغيله. وتشغيل وإعمال العقل يعني التفكير مليا من خلال إثارة أسئلة محددة ومن ثم محاولة الإجابة عنها بصورة منهجية ومنطقية متكئين على الرصانة العلمية في معالجة المشكلة أو المسألة التي نحن بصددها.
وأفضل إعمال للعقل يقع عندما يجرنا التفكير إلى محاولة حل المعضلة أو الإشكال الذي نعانيه، وتقديم حلول أو خيارات أخرى أفضل للمجتمع.
وهذا يبدو ما تسعى إليه نظريات العلوم الاجتماعية في عصرنا هذا، حيث تثار أسئلة جريئة لم يكن في الإمكان حتى التفكير فيها سابقا وصياغة نظريات علمية لتفسير وفهم ظاهرة اجتماعية محددة ومحاولة التكهن بمساراتها في المستقبل.
وأي نظرية علمية تخفق في تحديد أركان المعرفة القائمة ضمن إطار نقدي علمي لا يعتد بها ومن النادر الركون إليها. والتحدي هنا لا يعني بالضرورة أن البحث يجب أن يأتي بما هو جديد لإزاحة ما سبقه.
النظرية في الأغلب تبنى على ما سبقها من معرفة وقد تبرهن أن ما لدينا سليم ويجب تعزيزه أو قد تدلل أن ما لدينا لم يعد بإمكانه تفسير الظاهرة الاجتماعية وتقديم حلول للمشكلات المرتبطة بها، وهنا يأتي دور الأسئلة التي طفت للسطح ولم تتم الإجابة عنها حتى الآن.
وأكثر النظريات تأثيرا في عصرنا هذا ضمن نطاق العلوم الاجتماعية تتكئ على النقد. والنقد في العلوم الاجتماعية لا يعني الهجوم أو الإدانة، بل استنباط أفكار وأسئلة جدية لإلقاء مزيد من الضوء على الظاهرة الاجتماعية.
وقد عرجنا سابقا على النظرية النقدية التي اكتسحت ساحة العلوم الاجتماعية قبل نحو قرن من الزمان، لكنها بقيت حبيسة الجدران الأكاديمية قبل أن تصبح مثار نقاش ومداولات على صعد الإعلام والسياسة والاقتصاد وشتى المضامير الاجتماعية والثقافية الأخرى.
وقد تشعبت النظرية النقدية منذ أن وضع أسسها كارل ماركس في تعقيباته ونقده للاقتصاد والمجتمع. النظرية النقدية في شتى تفرعاتها مدينة لماركس لأن الفيلسوف هذا كان رائدا ولا يزال حتى يومنا هذا في تفكيك العلاقة بين القاعدة الاقتصادية والطبقات العليا للهرم الأيديولوجي للمجتمع. تركيز ماركس ينصب على الطرائق التي تسعى فيها السلطة للهيمنة على المجتمع.
وعلى خطا ماركس سار مفكرون كبار آخرون من أمثال الهنجاري جيورجي لوكاس والإيطالي أنطونيو جرامسي. سعى المفكران هذان إلى تطوير نظرية ماركس النقدية وتطبيقها في فضاء الثقافة، وانصب اهتمامهما على القوى الاجتماعية التي تعمل على حرمان الناس من استيعاب الطريقة التي تؤثر السلطة والهيمنة في حياتهم.
وأسست مدرسة نقدية شهيرة أطلق عليها مدرسة فرانكفورت لتدريس النظرية النقدية وإجراء الأبحاث فيها، وبرز في أروقتها مفكرون كبار أيضا من أمثال الفيلسوف المعاصر ذائع الصيت يورجن هبرماس وولتر بنيامين وماكس هورخيمر وثيودور أدورو وغيرهم.
وما النظرية العنصرية النقدية التي وصل تأثيرها إلى خارج الجدران الأكاديمية وصارت جزءا من الممارسة اليومية في السياسة والإعلام والتربية والاقتصاد والثقافة إلا امتداد لنظرية ماركس والمفكرين المتشبعين بأفكاره وطروحاته من الذين جرى ذكرهم في أعلاه.
ونحن الآن في خضم النظرية النقدية التي تعنى بالعنصرية المستترة التي بواسطتها نفقه كيف أن أصحاب البشرة البيضاء في أمريكا الشمالية وأستراليا مثلا يخفون عنصريتهم بغية الاستفادة القصوى منها.
وتفسر لنا هذه النظرية لماذا وكيف نقبل أن نطلق على المهاجرين البيض الذين قدموا إلى هذه الدول مصطلح الأمريكان أو الأستراليين أو الكنديين ونبعد عنهم العنصرية التي مارسوها ضد مالكي الأرض الأصليين قبل وصول البيض إليها؟.
وكيف ولماذا نطلق على كل من لا يملك بشرة بيضاء في هذه الدول توصيفات غير حميدة تشي بعنصرية مضمرة؟ انظر التداول على المستويات كافة من الإعلام والسياسة إلى الشارع لأصحاب البشرة الداكنة في أمريكا، حيث إنهم ليسوا إلا الأفارقة الأمريكان أو السود الأمريكان. أما سكان الأرض الذين جرى تقريبا استئصالهم فهم مجرد سكان أو الأهالي أو السكان الأصليين أو هندو - أمريكيين.
وهكذا يحتفظ البيض بالأرض التي سلبوها من غيرهم ومعها السلطة وبتوصيفات حميدة أيضا دون أن يرف لهم جفن أو أن يقف امرؤ في وجههم مذكرا إياهم كيف حصلوا على ذلك ومن أين لهم ذلك؟.
النظرية النقدية التي أسس لها ماركس تزداد تأثيرا ليس في الأروقة الأكاديمية بل في حياة المجتمع لأنها تغلغلت في عروقه في الأعوام الأخيرة، خصوصا بعد الأزمة المالية لعام 2008 التي كادت تعصف بالنظام المالي القائم حاليا برمته الذي يشكل عماد الرأسمالية، وأحداث ذات نهج ونزعة عنصرية في أمريكا وأخيرا الجائحة التي طالتنا قبل عامين ولا تزال تفتك فينا.
إنشرها