Author

التضخم .. متى تتحقق السيطرة؟

|

أصبحت طروحات التضخم ومتحور أوميكرون من الأجندة الأساسية في قلب نقاشات البنوك المركزية، نظرا إلى كونهما يثيران قلق السياسات الاقتصادية والمالية لمعظم دول العالم. وبالفعل، بدأت البنوك المركزية العالمية بوضع خريطة تحركات ضد موجات التضخم المتنامية، لوضع حلول مناسبة لهذا الوضع الخطير، ولا أحد يمكنه أن يحسد القائمين على وضع السياسات النقدية في تلك البنوك هذه الأيام، فالمشهد الاقتصادي العام مضطرب ومتذبذب، والتعافي من الآثار الاقتصادية التي خلفها وباء فيروس كورونا ومتحوراته، بات مهزوزا، وتقديرات مستويات النمو العالمي تتراجع عند الجهات المختصة، فضلا عن الديون السيادية المتعاظمة التي باتت تخشى الحكومات تأثيراتها، أضف إلى ذلك المشكلات التي تعصف بسلاسل التوريد، والمعارك التجارية الدائرة هنا وهناك، وفوق كل هذا، تأتي التأثيرات السلبية من متحورات كورونا، بما فيها أوميكرون الذي لا يزال يربك المشهد العام، على الرغم من تراجع حدته في بعض الدول.
المشهد الاقتصادي والاجتماعي العام، يربك الحكومات، ومعها البنوك المركزية، خصوصا تلك التي تعمل بصورة مستقلة، أي أنها لم تعد تحت الإدارة المباشرة لهذه الحكومات. والمشكلة التي يواجهها المشرعون الاقتصاديون تكمن أساسا في نقطة محورية تتعلق بارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات تاريخية في بعض الدول، مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا، ودول الاتحاد الأوروبي، حيث انتشر كابوس تسونامي التضخم وعم معظم دول العالم، وعندما قررت أن توقف أو تخفف برامج التحفيز أو الإنقاذ عبر رفع الفائدة الأساسية، ارتفع التضخم إلى هذه المستويات المخيفة. ويبدو واضحا أن التيسير النقدي لن ينتهي بهذه السرعة، أو على الأقل بصورة حاسمة، على الرغم من الإشارات التي تظهر بين الحين والآخر من جهة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بأنه ماض في رفع الفائدة بنسب أكبر حتى مما هو متوقع، من أجل السيطرة على آفة التضخم، وآثارها الاجتماعية، والسياسية، في الساحة المحلية.
الفائدة الأمريكية في النهاية مرتبطة بمستويات الفائدة حول العالم، أي أن أي خطوة على الجانب الأمريكي بهذا الشأن لها انعكاساتها على الساحة الدولية.
مسألة التضخم ليست هي الهم الوحيد عند القائمين على البنوك المركزية الرئيسة، فهناك قضية التوظيف التي تسبب أرقا مستمرا على الساحة في معظم الأسواق المتقدمة، ومع ذلك يبقى التضخم المشكلة الأهم في الوقت الذي يجب على البنوك المركزية أن تعيد حساباتها، سواء برفع الفائدة بمعدلات أكبر أو أقل، أو حتى البقاء في حدود الفائدة الأكبر للصفر.
مشكلة التوظيف ليست معقدة تماما، حيث إنه مع تحرك أداء الاقتصاد العالمي بدأت معدلات التشغيل ترتفع، على الرغم من النقص الكبير فيها الناجم ليس عن مسببات كورونا فحسب، بل عن السياسات الحمائية التي تتخذها الحكومات بهذا الشأن، ولا سيما على ساحة الدول الغربية كلها تقريبا، فالتوظيف يرتفع من فرط ارتفاع الطلب على العاملين في كل القطاعات دون استثناء، خصوصا في الولايات المتحدة.
ولا شك في أن التضخم أصبح الآن مشكلة عالمية، لأنه ينبع أساسا من أزمة عالمية لم يتوقعها أحد، ولم تتفكك بصورة كاملة بعد. والأداة التقليدية المعروفة لكبح جماحه لا يبدو أنها ستكون مؤثرة وتعطي نتائجها في فترة قصيرة، وهي اللجوء إلى رفع الفائدة، لماذا؟ لأن المسألة إذا ما استفحلت أكثر ستشمل قطاع الخدمات الذي يمثل ركنا لوجستيا في دعم الحياة العامة ويسبب حالة إرباك وسلبية حقيقية تكون آثارا صعبة وعميقة، ولن تكون مقتصرة كما هي في الوقت الراهن على السلع، ولربما تمتد إلى جوانب أخرى، ولذلك سيتعقد المشهد أكثر في هذه الحالة التي لا يرغب أحد حتى في التفكير فيها.
العوامل التي أدت إلى ارتفاع التضخم ستبقى موجودة إلى آخر العام على الأقل، بما في ذلك ارتفاع الطلب من قبل المستهلكين، واستمرار مشكلات سلاسل التوريد، وبالطبع إمكانية ظهور متحورات جديدة لكورونا، ومن هنا، يتراجع عدد من كان يظن أن التضخم سينتهي في وقت قريب، فإذا كان المشهد الاقتصادي العالمي مضطربا، لا يمكن تحقيق السيطرة الكاملة على المسار العام له، خصوصا إذا ما عولج بأدوات قليلة المقاومة.

إنشرها