التشتت الرقمي يقود اقتصاد الانتباه

التشتت الرقمي يقود اقتصاد الانتباه
ما أكثر الصور التي تمثل التشتت الرقمي من حولنا.

تأسست شبكة الإنترنت في بداياتها، على مبدأ مزدوج، يتمثل في إمكانية الوصول العالمي المجاني، وتعاون مجمل المستخدمين، بغية تحسينها وتنميتها. وصار كل مستخدم - في غياب سلطة مركزية - حرا في اختراع ما يبتغيه، كي يغذي الشبكة العالمية، فلا حاجة إلى إذن ولا ترخيص، ما يمنح الفرد مطلق القوة تجاه الشبكة، أي سلطة التساوي في الارتباط بالشبكة.
تدريجيا، صار مبدأ المجانية العمود الفقري لاقتصاد الانتباه، الذي ترعاه المؤسسات الكبرى المسيطرة على الشبكة، فكلما أطال المتصفح - أي الزبون في أعين الشركات - المكوث أمام الشاشة، أمكن لهذه المنصات أن تصيره مصدر ربح، من خلال بيع فضاء إعلاني معادل لذلك الوقت. هكذا، وبكل بساطة، أقام عمالقة التكنولوجيا "نموذجا اقتصاديا"، أساسه نظرية الاستغراق، التي طورها مايهالي عالم النفس الكرواتي، التي باتت أداة محورية تستخدمها المنصات الرقمية.
تقوم نظرية الاستغراق على إشعار الإنسان بأنه دائما "تحت الطلب"، لاستقبال رسائل البريد الإلكتروني أو الرد على الرسائل النصية أو معاينة تحديثات الحالة، مستغلة طوفان الإشارات والمثيرات والإغراءات الإلكترونية، وذلك لبلوغ درجة "التشتت الرقمي"، حتى قيل إن "الانتباه هو وعاء الذهب الذي نبحث عنه جميعا".
يقصد بالتشتت الرقمي التغيير المفاجئ في السلوك، بدون أن ندرك ذلك. ويكون ذلك سببا في فقدان كثيرين مهارات إنسانية عريقة، مثل الذاكرة والإبداع والإنصات والتعلم والتأمل والنوم والاختلاء بالذات.. وحتى مهارة القراءة، بأسلوبها الكلاسيكي، في طريقها إلى الاندثار. فقد أظهر عديد من الأبحاث أن المرء لا يقرأ ما على الإنترنت، بل يتصفحه.
وعد نيكولاس كار الكاتب الأمريكي "القراءة على الإنترنت، تفقد إلى حد كبير القدرة على إنشاء روابط عقلية غنية، التي تتكون عندما نقرأ بعمق وبدون تشتت". فعادة، ترافق الوقت الذي نقضيه في قراءة كتاب لحظات استرخاء وسعادة ووقود للعقل، تفرض قراءة الكتاب السير بسرعة تخص القارئ، وتخيل الشخصيات والمشهد بتفاصيلها، أي الانغماس في المكتوب بكل تفاصيله.
عكس ما يحدث في "عصر التشتت"، أو "عصر المعلومات" بتعبير لطيف، مع وهم التصفح السريع، حيث ينتقل الإنسان بسرعة من موقع إلى آخر بدون أن يتصفح أي موقع. نعم، لا يكلف المرء نفسه عناء القراءة، بل يلقي نظرات سريعة ودون أي صبر. باختصار "إن المرء لا يتصفح إن لم ير ما يريده في الصفحة".
مع تسجيل فارق جوهري بين عملية القراءة وفعل التصفح مفاده أن الكتاب له نهاية، حتى لو استمرت قراءته لعدة أشهر، أما الإنترنت فلا نهاية له مطلقا، فلا يوجد ما يحدد الوقت على الإنترنت، ويعد هذا أحد أسباب إضاعة كثير من الوقت عند استخدامه، فالوقت يميل إلى التسرب من بين أيدينا على الإنترنت، عندما ننطلق في رحلة لم نخطط لها في الأساس.
طول الاستغراق في رحلات الإبحار أو بالأحرى البقاء على اتصال دائم بالشبكة خوفا من التفويت، يجعل الأفراد في اطلاع وتصفح مستمرين، تحسبا لحدوث أي جديد، حتى بات البعض يشعر بالقلق لتفويته شيئا ما. هذا الوضع أفقد كثيرين القدرة على الاختلاء بالذات، وتمت الاستعاضة عنها بالنشر عن الذات. لذا يقضي زبائن "اقتصاد الانتباه" وقتا أطول لأجل التفكير في شخصياتهم التي تظهر عبر الإنترنت، متجاهلين شخصياتهم القادرة على البقاء بمفردها.
حالة الاتصال أو الاستغراق قد توقع المرء في شرك تقليدي، مفاده عدم الحصول على لحظة واحدة لنفسه، حيث يطلب الآخرون انتباهه طوال الوقت، وتتحكم مطالب الآخرين في أفكارك طوال الوقت. أليس تفقد منصات التواصل الاجتماعي أو رسائل البريد الإلكتروني قبل مغادرة فراش النوم دليلا قاطعا على أن هناك غيرا يسيطر على أفكارك، قبل حتى أن تشرق الشمس.
يعد البعض دخول "عصر التشتت الرقمي" كان طواعية وعن بينة، لما يوفره من إمكانات وفرص، لعل أبرزها القدرة على القيام بعدة أمور في الوقت نفسه. خدعة لا تصمد كثيرا، فالأبحاث كشفت أن الزعم بإنجاز مزيد من الأمور غير صحيح، فنسبة الإنتاجية تنخفض إلى حدود 30 في المائة، علاوة على أن حالة الاتصال طوال الوقت، تشعر الفرد بالإرهاق، ما يثير أكثر من تساؤل حول مقولة "إن التكنولوجيا جاءت من أجل راحتنا".
ما أكثر الصور التي تمثل التشتت الرقمي من حولنا، بدءا من الهواتف الذكية التي أوشكت على التحول إلى وحوش تدمر حياة الأفراد، حيث تتسلل إلى أوقات الفراغ، وأوقات العائلة، وحتى أوقات النوم. يصلح وجود هاتف نقال على طاولة طعام مثالا حيا على ذلك، فلا شك أن شخصا ما سيتدخل عنوة في العشاء، باتصال أو رسالة أو غيرها، فيفسد متعة الجلسة. وتذهب شيري توركل الأكاديمية الأمريكية إلى أن "البعض وجد في الأمر طرقا لقضاء مزيد من الوقت مع الأصدقاء والعائلة، دون أن نوليهم أي اهتمام على الإطلاق".
واضح أن مجانية الوصول إلى شبكة الإنترنت ليست فعلا كذلك، فقد تبين أن نظرية الانتباه أعز ما يطلب في عصر التشتت الرقمي، واتضح أن المسألة هي أولا وأخيرا مسألة حرب خوارزميات تخاض بالخوارزميات وعلى الخوارزميات. على هذا الأساس، بات من الضروري أن نعرف، بلا أدنى شك، كيفية استخدام التكنولوجيا، بالطريقة المثلى لجعلها متوافقة مع حياتنا. ما حدا بسوزان جرينفيلد الكاتبة البريطانية إلى التحذير من "أن قضاء كثير من الوقت على الإنترنت سيؤدي بشكل حتمي إلى تكوين عقول تختلف تماما عن بقية العقول في التاريخ البشري".
لقد راهن المؤمنون بالوعي الكوني الرقمي على العقل والتشارك للوصول إلى نوع من الروحانية الجمعية، إلا أن طوباويتهم تلاشت كي تلتحق بالأنقاض المتراكمة للأوهام الخائبة، مؤكدة أن منتجات عمالقة التكنولوجيا سيف ذو حدين، يتطلب استخدام الاعتدال، فهي أشبه بالعقاقير، يمكن أن تنعشك، لكن تتعطش إليها أكثر فأكثر حتى تتناولها بإفراط، ويخرج الأمر عن السيطرة.

الأكثر قراءة