Author

مبادرة الحجر الأسود الافتراضي

|
في البداية نحيي الفكرة التقنية الراقية الخدمية التي أطلقتها وكالة شؤون المعارض والمتاحف ممثلة في الإدارة العامة للمعارض الرقمية خلال الشهر الماضي بالتعاون مع معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة في جامعة أم القرى، مبادرة الحجر الأسود الافتراضي.
وتهدف هذه المبادرة إلى استخدام الواقع الافتراضي (VR) والتجارب الرقمية التي تشير إلى محاكاة الواقع الحقيقي للتعريف بهذا الحجر المقدس، وهو من أحجار السماء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والملاحظ أن المبادرة وجدت موجة عاتية من بعض المعارضين، وأيضا وجدت تأييدا منقطع النظير. وإن كثيرا من المعارضين تعجلوا في إصدار الأحكام، فأطلقوا سهام غضبهم على هذه التجربة التي وصفوها بأنها بدعة، وكل بدعة ضلالة كما قالوا!
وما يجب أن نعرفه جميعا أن هذه التقنية تعطيك الإحساس بأنك زرت المكان وتمتعت برؤية الحجر الأسود، ويجسد أمامك الحجر الأسود بكل مكوناته وتفاصيله حتى تتمكن من تحليله والتعمق فيه حتى تتمتع بروحانياته.
ولذلك، يجب ألا نربط الواقع الافتراضي بالواجبات الدينية التي ترتبط بالمثول الشخصي في المكان المقدس، فهذه قصة، وتلك قصص أخرى.
وكان الدكتور عبدالرحمن السديس الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف من أوائل المؤيدين للمبادرة، حيث أشاد بأهمية إنشاء بيئة محاكاة افتراضية لأكبر عدد ممكن من الحواس سواء من خلال الرؤية، أو السمع، أو اللمس، أو الشم.
إن العالم الافتراضي هو مجموعة من التجارب التي تحاكي الواقع بكل وضوح وصدق، والفكرة تتيح لكثير ممن لم يستطيعوا زيارة الحجر الأسود أن يلقوا نظرة ولو افتراضية على الحجر الأسود، ولذلك دافع كثير من المغردين عن المبادرة، مؤكدين أن الغرض من هذه التقنية هو تمكين المسلمين الذين يعيشون في مواقع جغرافية بعيدة عن المشاعر المقدسة من التعرف على الأماكن المقدسة والكعبة المشرفة والحجر الأسود، بأمل أن هذه النظرة ستجعل قلوبهم تهفو إلى زيارة المكان للتعرف المباشر على عبقرية ذلك المكان.
ولذلك ما نؤكده أن الحجر الأسود الافتراضي لم يكن ــ بأي حال من الأحوال ــ بديلا عن الزيارات الميدانية والحقيقية للحجر الأسود الذي يرتاح الآن في حضن الكعبة المشرفة، ولذلك ما أتوقعه أن ما يعترض عليه اليوم، سيصبح مطلبا جماهيريا في المستقبل القريب وليس البعيد فحسب.
وألفت النظر إلى أن المملكة أصدرت في عام 2018 استراتيجية التحول الرقمي، وهي الاستراتيجية التي حققت تقدما أبهر العالم في مجال رقمنة المؤسسات والوزارات، وفي مجال الحكومة الإلكترونية بعامة، وبذلك وضعت المملكة اسمها في مقدمة الدول التي حققت تقدما مذهلا في التحول الرقمي، وكذلك حققت تقدما مذهلا في مجالات العالم الافتراضي وحتى الواقع المعزز.
وما أتصوره أن جميع مؤسسات الدولة ــ بما في ذلك مؤسسة الحرمين الشريفين - ستتم أتمتتها ــ بطريقة أو بأخرى ــ وفقا لما نصت عليه رؤية السعودية 2030.
بمعنى أن الحجر الأسود الافتراضي من الأمور الطبيعية التي يجب أن يطولها مشروع الحكومة الإلكترونية .. مع الحفاظ على قدسية الأماكن المقدسة. ولا أخفي عليكم أن المسؤولين عن استراتيجية التحول الرقمي يشتكون من نقص الوعي والقدرات والجاهزية المؤسسية ما أدى إلى عرقلة تنفيذ بعض مراحل مشروع التحول الرقمي.
ويبدو أن نقص الوعي والجاهزية المؤسسية يحتاجان إلى علاج للمضي قدما في تحقيق المزيد من برامج الحكومة الإلكترونية في قطاعات أخرى بعد نجاح الواقع الافتراضي في الحجر الأسود، وكذلك نجاح مشروع روبوتات توزيع مياه زمزم على حجاج وزوار بيت الله الحرام في الحرم المكي الشريف.
ونحن هنا لا نصادر أي رأي يعارض أو يوافق المشروع، فإن احترام الرأي والرأي الآخر هو مبدأ وموقف إسلامي شهم وشريف، وكما نحترم مؤيدي الحجر الأسود الافتراضي، فإننا نحترم معارضيه، والمسألة مسألة وقت حتى يتحول المعارض إلى معارض نسبي، ثم مؤيد نسبي.. إلى مؤيد في المطلق.
إن هوية الإنسان في العصر الذي نعيشه تغيرت بفعل تكنولوجيا المعلومات التي انتشرت في كل أوصال الحياة ولم تعد حياتنا بعيدة عنه.
وأصبح الكمبيوتر بتطبيقاته وافتراضاته جزءا لا يتجزأ من الهوية البشرية التي فرضت نفسها على الإنسانية، وأصبحت أداة من أدوات الحضارة الإنسانية التي نعيشها والتي لا يمكن الاستغناء عنها. وعلينا أن نتذكر كيف استخدمت الجهات المختصة في تنظيم مناسك العمرة والحج وسائل التقنية وتسهيل أداء المشاعر بسهولة وقت انتشار الجائحة وكيف تم السماح للآلاف بأداء المشاعر وفق خطة تنظيمية محكمة بفضل استخدام التقنية في استقبال وفود المعتمرين والحجاج من أماكن تواجد في المطارات إلى حين وصولهم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وترتيب الطوائف والسعي والصلوات والزيارات في الأماكن المقدسة وفق تطبيقات تقنية محددة دون زحام.
وإذا كان الكمبيوتر قد دخل الجينات الوراثية للإنسان، وبدأ يغزو عروق وشرايين البشر، فإنه من باب أولى أن نفتح له باب الاجتهاد ونخصص له مكانا في أنشطتنا الدينية بما لا يخل بقدسية العبادة ولا يخدش مبادئ ديننا الأقوم. يجب ألا نذهب بعيدا ونعتبر أن استخدام هذه التقنية في مجالات دينية معينة هو انتقاص من قدسية هذه المجالات واستهتار بروحانياتها.
والحقيقة أن توظيف التقنية لأداء خدمات تكنولوجية تخدم بعض مقدساتنا الدينية، سيأتي وقت ندرك فيه أننا باستخدام التكنولوجيا قد أسدينا خدمة جليلة لمقدساتنا وإسلامنا الحنيف، وإذا تأخرنا فإننا سنشعر بأننا قد قصرنا في واجبنا إزاء تمجيد هذه المقدسات، والتعريف بها عند كثير من المسلمين الذين يترامون في مناطق بعيدة جدا عن الأراضي المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة ونستطيع القول إن باب الاجتهاد مفتوح أمام المسألة، وما يماثلها من ممارسات إزاء استخدام الروبوتات لتوزيع مياه زمزم في رحاب المسجد الحرام، وغير ذلك مما سيأتي، ويأتي، ويأتي.
إنشرها