Author

الأموال القذرة .. الجريمة مستمرة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"أموال هائلة غير مشروعة تصب في النظام المالي الأمريكي"
جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية
في أعقاب انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، تركت تداعيات دولية لا يزال بعضها على الساحة حتى اليوم، وتكشفت حقائق يصعب تصديقها في البداية، إلا أن الجهات الدولية المختصة أكدتها عبر سلسلة من الوثائق الصادمة. وما تم الكشف عنه وقتها، أن نسبة كبيرة من البنوك والمؤسسات المالية في الولايات المتحدة وعددا من الدول الغربية الأخرى دعمت نفسها خلال الأزمة بأموال غير مشروعة. أموال دخلت بالفعل النظام المالي هنا وهناك من عوائد المخدرات والتجارة غير المشروعة والفساد وسرقة المال العام، وغيرها من أدوات منتجة لمثل هذه الأموال المشينة. حتى إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما؛ وقتها، صدمت من هذه المعلومات، وإن كانت تعرف أن الأموال القذرة موجودة في النظام المالي الأمريكي، لكن ليس بهذا الحجم الهائل.
اللافت الآن هو اعتراف جانيت يلين؛ وزيرة الخزانة الأمريكية؛ بأن الأموال غير المشروعة تصل في نهاية المطاف إلى النظام المالي الأمريكي. وإدارة جون بايدن كغيرها من الإدارات الديمقراطية السابقة تولي أهمية كبيرة لهذه المسألة، ومنذ وصولها إلى الحكم بدأت تحشد القوى الدولية لتصعيد الحراك ضد عمليات غسل الأموال، وما بات يعرف بالملاذات الآمنة. أي: المناطق التي يسهل على أصحاب الأموال القذرة إخفاؤها. لكن المصيبة أمام هذه الإدارة أن جزءا من هذه الأموال دخل بالفعل الدائرة المالية الأمريكية، وتحول إلى أموال مشروعة بصورة أو بأخرى. فحتى الأنظمة المشددة في هذا الميدان يصعب عليها العثور على الأموال التي خضعت للتبييض ضمن النظام المالي، مع ضرورة الإشارة إلى أن عمليات غسل الأموال عموما، تخضع للتطوير الدائم؛ ما دفع أغلب السلطات حول العالم إلى اللجوء إلى ما يمكن وصفهم بالمجرمين السابقين التائبين للحصول على خدماتهم في المكافحة.
لم تتراجع عمليات غسل الأموال حول العالم رغم الإجراءات العالمية المشددة التي اتخذت في هذا المجال، بما في ذلك وكالات تابعة للأمم المتحدة. تم التضييق على سوق التبييض، إن جاز التعبير، إلا أن عوائد هذه العمليات ترتفع، وينجح الذين يقفون وراءها في دمج الأموال ضمن الدائرة المالية المشروعة. ورغم كل البحوث والتحقيقات، إلا أنه لا توجد جهة دولية يمكنها أن تحدد تماما حجم عمليات غسل الأموال. لكن مكتب المخدرات والجرائم التابع للأمم المتحدة، يقدرها سنويا بين 2 و5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أو ما يساوي 800 مليون دولار إلى تريليوني دولار. ويعتقد مختصون أن المبالغ أكبر من هذه التقديرات بالفعل، لأن ساحة غسل الأموال اتسعت في الأعوام العشرة الماضية، بما في ذلك الرقعة الخاصة بالإنترنت والعملات الرقمية. فهذه الأخيرة لا تزال خارج المعايير الحكومية حول العالم.
وزيرة الخزانة الأمريكية، قالت علانية: "إن هناك أسبابا للاعتقاد بأن أفضل مكان في الوقت الحالي لإخفاء وغسل أموال مكتسبة بالاحتيال أو الجريمة هو في الواقع الولايات المتحدة". وهذا الإقرار يمثل أهمية كبيرة، لأنه يأتي من إدارة وضعت بالفعل أسسا جديدة لمكافحة غسل الأموال في أي مكان، بما في ذلك محاصرة الأمريكيين وغيرهم عبر حساباتهم المصرفية، والكشف عن مصادر أموالهم حتى لو كانت بسيطة. لكن لا بد من الاعتراف أيضا بأن تشديد القيود والإجراءات من قبل واشنطن والعواصم الغربية الأخرى، لم يمنع الاحتيال والتهرب فيهما. وتتصدر دول، مثل أستراليا وبريطانيا، المشهد في الدول الغربية. فعلى سبيل المثال، أفادت دراسة أخيرة لمركز الأبحاث البريطاني المعروف تشاتام هاوس، بأن قوانين مكافحة الفساد المالي والتهرب الضريبي وغسل الأموال في المملكة المتحدة يحتاج إلى إعادة النظر. وهذا يعني أن الإجراءات الجديدة لإدارة بايدن ستصطدم بتسيب هنا أو هناك. المشكلة أيضا لا تتلخص فقط في ضرورة فرض التشريعات أو تجديدها أو تشديدها، بل في مواجهة دائرة المحامين البارعين الذين يدافعون عن الأشخاص المتورطين في عمليات غسل الأموال وإدخالها إلى الأنظمة المالية، مستغلين ثغرات قانونية متعددة، وهذه الثغرات موجودة في النظام القضائي منذ عقود وبعضها منذ قرون. أي: لا بد من إصلاح هذا النظام ضمن تصعيد الحرب على الأموال غير المشروعة. لكن الأهم من كل ذلك، أن هذه الأموال تصل بالفعل إلى الأسواق الغربية التي تتبع قوانين متشددة، مثل: الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وغيرها؛ ما يعني أنها لا تبقى فقط في الدول التي تتبع قوانين مالية مرنة، مثل: سويسرا وجزر كايمان وبارمودا، وجيرسي والبهاما وآيل أوف مان، وأنجيلا، وجزر تركس، وكايكوس، وعدد آخر غيرها. فقسم منها ينتهي به المطاف في الأسواق الغربية التي توفر بحد ذاتها ميادين استثمارية واسعة.
لا شك أن الحرب على الأموال القذرة ستتواصل، ولا بد من تعاون دولي في هذا المجال، فضلا عن تحديث للأنظمة القضائية، وتطوير أدوات المكافحة بما يتناسب مع الابتكارات الجديدة دائما في عالم الجريمة عموما.
إنشرها