Author

التحفيز والتضخم .. صرامة ومرونة

|

سياسات الدعم الحكومي، التي تبنتها دول العالم كمنهجية اقتصادية منذ الكساد العالمي 1929، عملت خلال وقت مضى في خانة موجه اقتصادي ومحرك احتياطي، إذا تعطلت المحركات الطبيعية، لكن الأحداث التي مرت منذ الأزمة العالمية جعلت هذه المحركات في المقدمة، وأصبح من الصعب اتخاذ قرارات بسحب الدعم الحكومي رغم مطالبة بعض الاقتصاديين من فترة إلى أخرى بذلك تفاديا لتضخم الأسعار المنفلت، لكن تسارع الأحداث وتزامنها يجعل مثل هذا القرار بعيد المنال.
فبعد الأزمة العالمية 2008 استمرت الأحداث نحو هزات اقتصادية في دول ومناطق مختلفة من العالم، ثم استمرت الأوضاع المناخية والعواصف غير الطبيعية، تهدد أي قرار بسحب الدعم، مثل كارثة تسونامي 2011، وجاءت أزمة كورونا لتعجل بأن أي قرار لسحب الدعم اليوم يعد انتحارا اقتصاديا.
وهنا سارعت معظم الدول، خاصة دول مجموعة العشرين، إلى تقديم حزم من الدعم والإنفاق الحكومي لتحفيز الاقتصاد، ورغم ذلك تفاوتت درجات الاستجابة الاقتصادية لهذه الحزم بحسب أمور عدة، أهمها الهدف من التحفيز، وتوجيه التحفيز، والهدف الثالث الثقافة العامة بشأنه. وبينما اتجهت دول مثل الولايات المتحدة لتحفيز اقتصادها من خلال حزم دعم للشركات الكبرى لتدعيم الوظائف والتوسع في مشاريع البنى التحتية لمواصلة الزخم، فإن حزم الدعم، التي تبنتها الحكومة اليابانية كانت موجهة أساسا للمحافظة على الطلب الكلي واستهلاك الأسر.
ويشير الخبراء إلى أن الحزم المالية، التي وزعتها الحكومات اليابانية السابقة كانت بهدف إنعاش الاقتصاد الوطني عن طريق زيادة الاستهلاك العام، ورفع معدلات التضخم المحلي، ومن ثم تحفيز رجال الأعمال على مزيد من الاستثمار، وقد بلغت حزم الدعم اليابانية 17 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لثالث أكبر اقتصاد في العالم.
وأعلن رئيس الوزراء الياباني حزمة قياسية جديدة من التحفيز المالي 314 مليار دولار للعام المالي 2021، بحيث سيتم توزيع 872 دولارا للأسرة، التي لديها أطفال أصغر من 18 عاما، في وقت قدمت فيه الإدارة الأمريكية حزمة مساعدات نحو تريليوني دولار.
وفي ظل هذه الحزم، فإن السؤال المطروح عن أسباب التفاوت في توجيه الدعم، خاصة أن كلتا الدولتين من مجموعة الدول الصناعية السبع. وطبقا لعدد من الخبراء، فإن حزم التحفيز اليابانية على دعم المستهلكين لا تمنح القدر ذاته من الاهتمام للبنية التحتية، ومن ثم فإنها ذات طبيعة مؤقتة، وليست طويلة الأمد مثل نظيرتها الأمريكية، المنصبة أساسا على تطوير البنية التحتية مع دعم القطاع الاستهلاكي في الوقت نفسه، والسبب يعود إلى الخلفية الاقتصادية، التي تبنت فيها كل دولة حزم التحفيز في الوقت الذي انتشرت فيه الجائحة.
وفيما تتمتع اليابان بأفضل بنية تحتية في تاريخها الاقتصادي، كانت الولايات المتحدة تعاني ترهلا في بنيتها التحتية بشكل واضح لتزامن الأعاصير المدارية وقوتها. وبينما كانت الولايات المتحدة تحافظ على نموها - ولو كان ضعيفا - كانت مشكلة الاقتصاد الياباني منذ انفجار فقاعتها الاقتصادية في أوائل التسعينيات، تتمثل في وضع بين الانكماش والنمو الاقتصادي المنخفض. وفي ظل ظروف اقتصادية مثل هذه، فإن الأمل لم يزل معقودا على عودة الإنفاق الاستهلاكي لمعدلات مرتفعة، ولهذا رأت الحكومات اليابانية المتعاقبة مزجا بين سياسة نقدية صارمة وأخرى مالية مرنة كاستراتيجية لإنعاش النمو الاقتصادي، لكن الدعم الأخير، وفقا لهذه السياسات جاء مع قلق مستمر بشأن الجائحة واستمرارها وتراجع الطلب الصيني وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي، فلم يحقق الدعم مراده، إذ تشير التقارير إلى أن اليابانيين لم ينفقوا تلك الأموال، وفضلوا الاحتفاظ بها في مدخراتهم.
كما أن التدابير والإجراءات الإدارية تعوق وصول الإعانات المالية إلى الأسر اليابانية بشكل كامل وسليم وفي الوقت المناسب، ما يضعف تأثيرها الاقتصادي ويؤخره، وهذه النتيجة قادت اليابان إلى المرتبة الأبطأ بين الدول المتقدمة في التعافي الاقتصادي بعد وباء كورونا. ومع تجاوز الاقتصاد الأمريكي والصيني بالفعل حجمهما قبل الوباء، فإن البيانات اليابانية الرسمية تكشف عن أن الناتج المحلي الإجمالي لا يزال أصغر مما كان عليه في الربع الأخير من 2019 قبل انتشار الوباء في العالم.
ووصلت الدول إلى نتيجة مفادها بأن توجيه الدعم نحو المشاريع والبنى التحتية من خلال الاستثمار، الذي يستهدف قطاعات الصحة العامة، وسوق العمل، والعمل على زيادة النمو طويل الأجل للاقتصاد الوطني، هو الدعم الذي يحقق النمو طويل الأجل، ويعد أفضل من دعم الأسرة مباشرة، وأن نموذج الحزم التحفيزية اليابانية، التي تركز على دعم المستهلكين، ولا تمنح القدر ذاته من الاهتمام للبنية التحتية، تعد ذات طبيعة مؤقتة، وليست طويلة الأمد كالتي اتجهت إليها حزم الدعم الأمريكية. لكن قبل الإقرار بمثل هذه النتيجة، فإنه من المهم لفت الانتباه نحو عوامل أخرى يجب أخذها في الحسبان عند دراسة جميع نماذج حزم الدعم وتوجيهها، ومنها سلامة سلاسل الإمداد، وضخامة حجم الدين العام، وتجنب الزيادة في أسعار الضريبة لتمويل الدعم، حيث أثر ذلك سلبا في سلوك القاعدة العريضة من المستهلكين، الذين يعملون على خفض الإنفاق، وهذا ما حدث في النموذج الياباني عندما تم رفع سعر ضريبة المبيعات بنحو 2 في المائة، حيث تراجع الإنفاق الاستهلاكي رغم حزم الدعم المباشرة.

إنشرها