Author

تشرّفوا ويشرّفون

|

وجد صدور الأمر السامي، القاضي بمنح الجنسية السعودية لعدد من أصحاب الكفاءات المتميزة والخبرات والتخصصات النادرة، أصداء كبيرة ومتنوعة من الجهات المهتمة كافة. ويأتي هذا التفاعل مع كون الأسماء التي تم منحها الجنسية السعودية ذات قيمة اقتصادية مهمة وجذابة في تخصصات وتطورات تمثل عصب الاقتصاد اليوم خاصة التحول الرقمي ومتغيراته المتسارعة، مثل علم البيانات، الذكاء الاصطناعي، الاستثمار، وسلاسل التوريد، كما أن هذه التخصصات تعد ذات ندرة وتنافسية مطلوبة نتيجة الخبرات المتراكمة والمشاركات العلمية العالمية الواسعة، ما يعزز من قيمة أصحابها، لذلك فإن القرار يعكس رغبة القيادة في منح الجنسية للمتميزين وبمراعاة أعلى معايير الكفاءة والمهنية لتقديم القيمة الاقتصادية المضافة، وتحقيق أهداف رؤية 2030.
فالسعودية كدولة حديثة منافسة تسعى دائما إلى تعزيز قدراتها من أنواع رأس المال الستة كافة، المتمثلة في رأس المال البشري، الطبيعي، الاجتماعي والعلاقات، الفكري، ورأس المال الصناعي، إضافة إلى رأس المال المالي التقليدي. ومن يلاحظ البنية الفلسفية، يجدها تهتم بتنمية هذه الأنواع كافة، ذلك أن الاتجاهات الحديثة في بناء الأمم واقتصاداتها لم تعد ترتكز على مفهوم جذب وتنمية رأس المال المالي فقط، بل إن الاستدامة وآليات التنافسية العالمية والتحديات التي تواجه البشرية تتطلب من أي دولة قوية أن تهتم بهذه الركائز والأركان. كما أنه تبين من خلال الدراسات والأبحاث التي أجرتها مؤسسات دولية مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن هذه الأنواع تتعاضد فيما بينها من أجل إيجاد الثروة والقيم للأمم، وأن إهمال أي مكون منها قد يضعف النمو الإنتاجي على المدى المتوسط والطويل. ورأينا كيف الاهتمام بموضوع البيئة والتغيرات المناخية طوال أسابيع مضت، وما ذلك إلا أن العالم يعاني تآكلا في رأس المال البيئي بطريقة تؤثر في النمو الاقتصادي عموما، وعلى هذا المنوال فإن ارتباط هذه المفاهيم يتطلب من أي دولة طموحة بذل عناية مناسبة لكل منها. والمتابع يرى كيف اهتمت خطط السعودية بهذه الأنواع كافة في برامجها المختلفة، فمن جانب الاهتمام برأس المال المالي تم تطوير برامج التحول الوطني ومكتب الدين العام وتنمية الإيرادات غير النفطية، وأيضا تطوير السوق المالية وعدد من برامج صندوق الاستثمارات العامة من أجل تنمية قدرات المملكة لرأس المال المالي وجذب رؤوس الأموال العالمية، وكذلك استقطاب الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال عبر نظام الإقامة المميزة، وهي الآن تعمل على جذب العقول والكفاءات ممن يقدمون قيمة مضافة للرؤية الاقتصادية.
وفي جانب تنمية رأس المال الطبيعي تظهر مبادرات عدة مثل الرياض الخضراء، والشرق الأوسط الأخضر، واستراتيجية "شيم وقيم" لتطوير عسير، ومشاريع البحر الأحمر، وغيرها من المشاريع الكبرى، وفي مجال رأس المال الفكري تظهر مشاريع مثل مشروع نيوم كمشاريع تستثمر في الفكر والابتكار والطاقة المتجددة وتعزيز العلامة التجارية والسمعة، بينما تتم تنمية رأس المال المصنع عن طريق استراتيجيات النقل والصناعة والخدمات اللوجستية والتعدين، ويأتي رأس المال الاجتماعي والعلاقات في المشاريع كافة التي تسعى إلى تعزيز جودة الحياة والترفيه وتنمية الروابط الاجتماعية.
وضمن هذه الفلسفة الواضحة للعمل والرؤية، فإن رأس المال البشري سيكون المحور لتنمية هذه الأنواع كافة والتفاعل معها، ولهذا أولته الرؤية اهتماما بالغا ظهر في مسارات عدة، كاستراتيجية الصناعات الوطنية وتعزيز تنافسيتها، وتطوير مخرجات التعليم، وهذا يضاف إلى برنامج تنمية القدرات البشرية الذي أعلن عنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قبل عدة أشهر، ويتضمن مبادرات ومشاريع عديدة تهدف إلى تطوير القدرات الوطنية منذ مرحلة الطفولة ورياض الأطفال حتى الوصول إلى أسواق العمل. وتستكمل تلك الخطوات والمشاريع ببرنامج منح الجنسية السعودية لعدد من أصحاب الكفاءات المتميزة والخبرات والتخصصات النادرة ليجسر الفجوة بين الخبرات التي يحتاج إليها الاقتصاد السعودي في المرحلة الحالية، وكي تتناغم الإنجازات وتتكامل مع أنواع رأس المال كافة. فالتنمية المستدامة اليوم تتطلب تنمية رقمية وهذا يتطلب مفكرين بارزين لحل المشكلات الآنية، كما أن تنامي القدرات الاستثمارية في مشاريع شتى حيث يتطلب عقولا استثمارية مواكبة للحدث، لهذا فإن استقطاب الكفاءات لا يقلل مطلقا من شأن الكفاءات الوطنية بل مكمل لها وضروي لتنوع الأفكار من تجارب ومدارس عالمية شتى، فتلاقح هذه العقول يصنع المعجزات وتعد ممارسة عالمية متبعة في أكثر الدول تطورا وتقدما.
فكل دول العالم الصناعية والمتقدمة، التي تطمح إلى تحقيق رؤيتها، واستراتيجية التنمية الشاملة، تفتح أبوابها لاستقطاب الكفاءات وفق سياسة معينة، ومن خلالها يتم استقطاب عقول نيرة ومبدعة ومبتكرة، يمكن أن تسهم في نهضة البلاد، وأثبتت التجارب الإنسانية أن تلاقح العقول في أرضية مشتركة وفي ظل دولة ذات سيادة وطموح هو الذي يصنع الفارق ويعزز من قوة الدول وسيادتها، والتجارب التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، خصوصا في هجرة العقول للولايات المتحدة بحثا عن الأمان قد مكنتها من الهيمنة الاقتصادية على العالم لعقود طويلة، ومنذ ذلك الحين أصبحت الدول، بما فيها الدول المتقدمة، تبحث عن المبدعين والمتميزين، لأنها تدرك مدى أهمية العقول في الإسهام في التقدم والتطور العلمي والتقني والبحثي.
ولتحقيق هذه المتطلبات فإن عملية اختيار الكفاءة يجب أن تكون بقواعد ومعايير صارمة، وتأكيدا لهذا فإن استقطاب المتميزين والمبدعين سيكون قائما على الترشيح وفق المصلحة العامة، ويتم تحديد القطاعات في الطب، الصناعة، الطاقة، الزراعة، الجيولوجيا، الفضاء والطيران، الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء وغيرها في التخصصات المطلوب استقطاب كفاءاتها، يستشرف مجالات التركيز والاستحقاقات التنموية التي تسعى السعودية إلى تحقيق التميز والريادة فيها.

إنشرها