Author

ابن فضلان والسويديون القدامى

|
أستاذ جامعي ـ السويد
قبل نحو عشرة أعوام، أمسكت مصادفة كتاب التاريخ المخصص منهجا دراسيا لطلبة الثانوية في السويد. كان الكتاب مرميا على الطاولة في غرفة النوم التي يقيم فيها ولدي الذي كان في حينه يدرس في الثانوية في المدينة التي أقطن فيها.
وكان الكتاب حول تاريخ السويد في فترة الفايكنج Vikings. ليس من السهل تقديم تعريف شامل وموحد للفايكنج، إن أخذنا أعمالهم في عين الاعتبار.
بالمناسبة أقام هؤلاء الإسكندنافيون أو السويديون القدامى إمبراطورية شاسعة شملت بريطانيا في حينها وأغلب أوروبا ووصلت حتى نهر الدانوب وأطراف الدولة العباسية وذلك في القرن العاشر.
والتاريخ سجل للأحداث في الأغلب ننتقي منها ما يبهر الأبصار ونغمض الطرف عما يرعبها، خصوصا في كتب التاريخ التي تتخذها المؤسسات التعليمية مناهج تدريس للطلبة والتلاميذ.
وعموما، من النادر أن نقرأ التاريخ بعيون نقدية ونزيهة وموضوعية. وبصورة عامة نغدق المديح على تاريخنا، وإن وقعت أعيننا على المساوئ والأحداث المؤلمة، إما نغض الطرف عنها أو نقدم الأعذار أو بالأحرى الحجج لتبريرها وقبولها.
وآخر كتاب منهجي تاريخي قرأته كتلميذ كان حول تاريخ إنجلترا. كان الكتاب جزءا من مقررات قسم اللغة الإنجليزية.
أحببت الكتاب لسلاسة الأسلوب واللغة العالية وطريقة السرد المبتكرة في حينه (أي: في السبعينيات من القرن المنصرم).
لم أستسغ مادة الكتاب لأنها عرضت الأحداث والملوك والحروب واستعمار شعوب وأراض لا تغيب عنها الشمس كأنها خير من السماء.
وكانت المادة تقدم توصيفات غير حميدة للشعوب التي غزت إنجلترا أو حاربتها أو قاومت سطوتها واستعمارها.
وأتذكر كيف أن الكتاب قدم وصفا بربريا للفايكنج الذين غزو إنجلترا واستعمروها نحو ثلاثة قرون من مستهل القرن التاسع حتى القرن الـ 12.
ولهذا عندما تناولت كتاب تاريخ السويد الذي كان يقرأه ولدي كجزء من مناهج التعليم الثانوي، كانت توقعاتي أن يعرض الكتاب وجها نيرا لفترة الفايكنج، الفترة التي تحول فيها السويديون القدامى إلى إمبراطورية في إمرتهم أغلب الدول الأوروبية الحالية وصاروا أندادا للروس ووصلوا إلى تخوم الدولة العباسية.
لكن لم يصدق حدسي. كان الكتاب المنهجي نزيها وموضوعيا وذا حس نقدي منطقي.
وبرهانا لما أقوله كانت في الكتاب فقرات مطولة مترجمة من أحمد بن فضلان الرحالة العربي الذي في رأيي يتقدم أقرانه من كتاب أدب الرحلات عموما من حيث الوصف الدقيق والأمانة في النقل والشجاعة في سبر الأغوار والأهوال.
ليس هذا مجال لذكر فضائل هذا الرحالة الكبير والكاتب اللامع، لكن ما أود قوله هنا هو أن ابن فضلان يستحق أن يكون اسمه ونبذة عن حياته مادة في مناهج التاريخ المدرسية في الدول العربية.
في الكتاب المنهجي المدرسي السويدي عن تاريخ السويد وفترة الفايكنج هناك فصل عن القبائل والعساكر الإسكندنافية التي استوطنت على مقربة من تخوم الدولة العباسية.
غاية الكتاب هي إجراء مقارنة ومقاربة بين الحضارة العربية والإسلامية في القرن العاشر وبين ما كان عليه أجداد السويديين في حينه.
في الحقيقة لم يكن لي ولع بأدب الرحلات في العربية إلا بعد قراءتي للنص السويدي حول ما كتبه ابن فضلان من ملاحظات عن مشاهداته لما كان يقوم به الفايكنج من طقوس جنائزية والدهشة الكبيرة التي يظهرها الرحالة للبربرية التي كان أجداد السويديين عليها في حينه.
وربما لما صدقت ما أتى به ابن فضلان لو قرأته مباشرة بالعربية نقلا عنه، لكن أن يدرج في كتاب منهجي للتاريخ يدرس في الثانويات في السويد لإظهار الوحشية التي كان عليها أجدادهم في حينه، فهذا لعمري لم أكن أتوقعه في كتاب مدرسي.
يأتي هذا الكتاب المنهجي على ذكر وصف ابن فضلان للطقوس التي كانت ترافق وفاة سيد من الفايكنج، حيث كانوا يحرقونه جنبا إلى جنب مع العبيد والفتيات بعد حفلة يحتسون خلالها كميات كبيرة من النبيذ.
وبعهدها تشنق الفتيات أو تعدمن بواسطة خنجر وتحرق مع سيدها المتوفي.
وينقل الكتاب كثيرا من الوصف السلبي الذي أتي به ابن فضلان عند لقائه الفايكنج بالقرب من نهر الدانوب ويؤكد أن الوصف صحيح، منوها أن ما سطره بعيد عن الإغراق في الغلو والمبالغة التي ترافق كتب الرحلات من هذه الفترة.
وأجمل ما قرأته في الكتاب المنهجي السويدي هذا كان حوارا مترجما بين ابن فضلان وكبير قبيلة للفايكنج. ابن فضلان يستند إلى ثقافته ودينه منتقدا تصرفات الفايكنج الهمجية وسلوكهم الأرعن وطريقة عيشهم، وكبير القبيلة، منطلق من ثقافته ودينه، ويسخر منه.
وضع فقرات مطولة من وصف ابن فضلان السلبي للسويد في القرن العاشر في كتاب مدرسي والتأكيد أنها صحيحة والتركيز على علو وسمو الثقافة والحضارة التي كان عليها الرحالة العربي في حينه، ووحشية وبربرية الثقافة الإسكندنافية عندئذ لعمري منهج يحتذى للتقرب من الحقيقة والواقع الاجتماعي للتاريخ.
ويبدو أن هناك توجهات جدية حاليا لإعادة كتابة التاريخ في الغرب، مسترشدة بالشجاعة السويدية في تقديم الماضي كما هو دون رتوش أو حذف وكذلك إماطة اللثام عما كان غائبا عنا حتى الآن.
وشخصيا، أنا مدين لكتاب التاريخ المنهجي الذي كان يقرأه ولدي في الثانوية في السويد لأنه حثني على قراءة ابن فضلان، ويا لها من قراءة ممتعة.
إنشرها