Author

الميزانية البريطانية المهزوزة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"هناك صعوبة حقيقية في التعافي من أزمة كورونا على الأسر في بريطانيا"
ريشي سوناك، وزير الخزانة البريطانية
يمكن القول: إن ريشي سوناك؛ وزير الخزانة البريطاني، أغضب كل الأطراف في الميزانية العامة التي أعلنها نهاية الشهر الماضي. حتى بعض القياديين في حزبه (المحافظين) لم يتردد في توجيه الانتقاد له، وبالتالي لبوريس جونسون؛ رئيس الوزراء، الذي منح الوزير الثقة تلو الأخرى في الفترة الماضية. وهؤلاء ينتقدون لسبب لا علاقة له بأسباب هجوم أحزاب المعارضة على الوزير والميزانية. لماذا الهجوم إذن؟ لأن الميزانية الجديدة تتضمن رفع الضرائب عبر زيادة مستقطعات الضمان الاجتماعي من العاملين والشركات التي تقوم بتشغيلهم. ونادرا ما تشهد الحكومات البريطانية عند إعلان الموازنات السنوية العامة هجوما من معسكرها. فهي تستعد دائما للمعركة الحتمية مع قوى المعارضة وجهات أهلية أخرى.
ميزانية بريطانيا الجديدة مهزوزة، لأسباب عديدة، في مقدمتها بالطبع الآثار الاقتصادية التي تركتها جائحة كورونا على الساحة المحلية، فضلا عن الاضطراب الذي تعيشه البلاد من جراء خروجها النهائي "بريكست" من عضوية الاتحاد الأوروبي اعتبارا من مطلع العام الجاري. وهذه المسألة لها تبعاتها وذيولها وتأثيراتها، وهي حاضرة على الساحة لأجل غير مسمى، ولا سيما في ظل الخلافات الراهنة مع المفوضية الأوروبية حول استكمال عملية تنفيذ اتفاق الخروج. ومن الأسباب التي أصابت الميزانية المشار إليها بالاهتزاز، أن ديون البلاد وصلت إلى مستويات فلكية، والتضخم ارتفع في الفترة الماضية، فضلا عن تأثر المملكة المتحدة باضطرابات سلاسل الإمدادات؛ كغيرها من بقية الدول، ووجود بعض المشكلات في مسعاها لإبرام اتفاقيات تجارية من دول محورية على الساحة الدولية.
إن المشهد المضطرب ليس حكرا على المملكة المتحدة، لكنه كان أشد وطأة عليها مقارنة ببقية الدول الغربية الأخرى، لأنه تزامن مع مجموعة من العوامل السلبية. ليست موفقة تماما اتهامات حزب العمال المعارض لسوناك وزير الخزانة، بأنه "يعيش في عالم خيالي". فالرجل يقدم ميزانية في ظروف صعبة للغاية، ولا توجد جهة تحسده على مكانته الوظيفية هذه في هذا الوقت بالذات. صحيح أنه يعرض ميزانية تستهدف في النهاية تقوية الاقتصاد الوطني، لكن الصحيح أن القوة التي وعد بها لن تتم في العام المقبل. فالنمو المتوقع (وليس المضمون) لن يتحقق قبل أعوام، يضاف إليه الارتفاع المتصاعد لأسعار الطاقة، إلى جانب الهم المتجدد من خلال مشكلات سلاسل التوريد. وهذه العوامل ستضيف مزيدا من الأعباء على كاهل الأسر في بريطانيا.
المشكلة واضحة المعالم. الحكومة البريطانية لا يمكنها أن تسد العجز في موازنتها إلا عبر مورد واحد وهو الضرائب. وحزب المحافظين الحاكم خاض الانتخابات العامة الأخيرة تحت شعار عريض يغري دائما أصحاب الأعمال ورؤوس الأموال، وهو خفض الضرائب. كل ما أمكن أن يقوم به وزير الخزانة، أنه جمد بعض الرسوم والضرائب، لتغطية العجز الذي بلغ 34 مليار دولار. وهذا العجز ليس كبيرا على كل حال، وهو ناتج عن الدعم الحكومي وخطط الإنقاذ التي أقدمت عليها حكومة جونسون، بسبب الآثار الاقتصادية الخطيرة التي أتت بها جائحة كورونا. فكما هو معروف، فقد وفرت الحكومة نسبة كبيرة من رواتب العاملين في القطاع الخاص خلال الأزمة، ومنحت قروضا ميسرة وبفائدة صفرية لمن يستحق.
ليس كل شيء سلبيا على الساحة الاقتصادية البريطانية. فمؤشرات البطالة تدل على تحسن كبير في المستقبل القريب، على أن تصل في حدها الأقصى (بعد الجائحة) إلى 5.2 في المائة فقط، وهذه نسبة معقولة قياسا بنسب البطالة الأخرى في عدد من الدول المشابهة من حيث التكوين الاقتصادي للمملكة المتحدة. وتراهن الحكومة حاليا على أن يصل النمو فعلا في العام المقبل إلى 6 في المائة على الأقل، على أن يتراجع بالطبع في الأعوام الثلاثة المتبقية من عمر حكومة بوريس جونسون. والنمو المرتفع ليس حكرا على بريطانيا، فكل الدول التي أصابتها الأزمة الاقتصادية بسبب كورونا، ستشهد نموا مرتفعا هو في الواقع عملية طبيعية بعد انكماش بلغ في المملكة المتحدة في عام الجائحة 10 في المائة، وأدخلها في أعمق ركود في 300 عام، بحسب وصف ريشي سوناك وزير الخزانة.
لنترك الدين العام جانبا في المملكة المتحدة، فقد أصبح الحاضر الدائم في اقتصادات الدول المتقدمة. كل ما تسعى إليه الحكومة حاليا أن تضمن نموا واقعيا مرتفعا حتى ولو لفترة قصيرة، تستعيد فيه تماسك الحراك الاقتصادي العام، وأن تحل المشكلات العالقة في اتفاق "بريكست" بأسرع وقت ممكن. فهذه المشكلات تسهم بصورة أو بأخرى بتأخير بعض الاتفاقات التجارية مع دول أخرى خارج الاتحاد الأوروبي. كما أنه يجب على هذه الحكومة السيطرة على التضخم الذي يضيف أعباء لا تحتمل إلى شريحة واسعة من العائلات، خصوصا أنها ستصل العام المقبل إلى 4 في المائة، في حين أن النسبة المستهدفة من قبل بنك إنجلترا المركزي لا تزيد على 2 في المائة. إن المهمة ليست سهلة أمام حكومة تسعى لأن تبقى في الحكم بالانتخابات العامة المقبلة.
إنشرها