Author

تحولات سوق العمل .. استعدوا

|

لا شك أن الذكاء الاصطناعي يحمل تحديات لسوق العمل في المستقبل، إذ تؤكدت دراسات مختلفة ومتنوعة أن الروبوت سيقضي على ملايين الوظائف في الشركات متوسطة وكبيرة الحجم خلال الأعوام الخمسة المقبلة، خاصة أن وباء فيروس كورونا أحدث تغيرات هائلة في مكان العمل أبرزها مطالبة العاملين بالعمل عن بعد، واتجاه الشركات إلى الاعتماد على الآلات المبرمجة لأداء عديد من الأعمال رغم تفاقم التفاوت بين القطاعات الصناعية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل بدأ الصراع بين الآلة والإنسان على سوق العمل؟ لكن سؤال بهذا الشكل يبدو غير منطقي، إذ إن الآلة كانت منذ الثورة الصناعية الأولى تحيط بالإنسان في جوانب ومجالات العمل المختلفة، بل أدت إلى صنع الصراع الطويل بين المذهبين الاقتصادي الاشتراكي والرأسمالي. كان الإنسان قبل الآلة يعمل في حقله، فلما جاءت الآلة بحديدها أصبح يعمل في المصنع، فأوجدت له فرصا جديدة للعمل، وقد وصف آدم سميث في كتابه الشهير "ثروة الأمم"، كيف أعادت الآلة تصنيف العمل الإنساني في مصنع للمسامير، وكيف منح المصنع فرصة لزيادة أعداد العمال، فهناك عامل يشد السلك، وآخر يعدله، وثالث يقطعه. وهكذا يسير العمل من عامل إلى آخر حتى يتم تجميع المسامير منتهية الصنع. ووضع آدم سميث هذا المثال في سياق أن تصنيف العمل بين العمال ينتج الثروة للأمم، وإذا كانت المجتمعات الاقتصادية قد تكيفت مع وجود الآلة وقدرتها على زيادة الإنتاج بل إنتاج وظائف جديدة، فلماذا يوجد اضطراب واسع الانتشار من ظاهرة تنامي ذكاء وتطورات الآلة؟ لكن لعل دخول كلمة الذكاء على الآلة صنع كل هذا الوضع حاليا، فالآلة اليوم أصبحت بذاتها قادرة على العمل وتقسيمه من أول سلسلة الإنتاج حتى نهايتها، ولم تعد هناك حاجة إلى منتجات النظرية الرأسمالية التي جاد بها آدم سميث والمتمثلة في تقسيم العمل بين العمال.
وهنا لا بد أن نفهم أن النظرية الاقتصادية أسست في فترة ما بعد آدم سميث على أساس أن تخصيص العمل يعد أهم قواعدها، والمنتج الأساس للثروة، وهذا صحيح نظريا فإن احتكار الأعمال بيد حرفي واحد يحد من كثافة الإنتاج ولا يأتي بالثروة، لكن دخول الآلة مع توزيع العمل بين عدد كبير من الأشخاص جعل الإنتاج يتصاعد طرديا مع زيادة التخصيص ما أوجد فائضا هائلا في إنتاج الثروة للعمال، لكن الوضع الآن مختلف مع دخول الذكاء الاصطناعي الذي تمكن من تعظيم الإنتاج دون الحاجة إلى تخصيص العمل، فهناك ثورة كبيرة تحققت جراء دخول الآلة لكنها لم تعد بالضرورة ثروة للأمم.
ووفقا لتقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي سيتم استبدال 85 مليون وظيفة عام 2025 عبر آلات تعمل بالذكاء الاصطناعي، وإذا كان عدد العاطلين عن العمل في الوقت الراهن يتجاوز 220 مليون شخص، فإن الوضع المتصاعد من هذه الآلات على سوق العمل ورفاهية البشر له ما يبرره أيضا، ويؤكد الخبراء العالميون أن التحدي الأكبر الذي يواجه الاقتصاد العالمي على المدى القريب هو كيفية الانتقال من النموذج الاقتصادي الحالي المدفوع بالوسائل التقليدية للتصنيع إلى نموذج جديد مدفوع بالإنجاز التكنولوجي الذي كان حتى وقت قريب مجرد خيال علمي، إذ يجب على الشركات أن تتعامل بشكل متزايد مع عدد كبير من النماذج والتقنيات، حيث أصبحت طرق البيانات السريعة وسيلة طرق الشحن الجديدة، وحل التخزين السحابي تدريجيا محل حاويات الشحن والمستودعات، وبالمثل تحل اللامركزية والرقمنة محل الوسائل التقليدية للتواصل والتعامل، وهذا بدوره أوجد اليوم فجوة بين الدول المتقدمة والنامية أو الفقيرة تتسع كلما ارتفعت مستويات البطالة حتى في التخصصات التي تعد في الوقت الحالي نادرة، ومع قولنا: إن آثار الذكاء الاصطناعي عامة في جميع البشر، فإن زيادة الفجوة بين الأمم تأتي بسبب أن الدول المتقدمة المصدر الوحيد والمورد الأكبر لهذا النوع من التكنولوجيا، ما يمنحها ميزة تنافسية كبيرة ومستدامة.
ومن المفاجئ أن الخطر الكامن وراء دخول الذكاء الاصطناعي في سوق العمل ليس على حساب العمال الأقل مهارة بل في حقيقته تهديد للمهنيين وذوي التعليم العالي مثل: الأطباء والمهندسين المعماريين حتى مبرمجي الكمبيوتر. وفي دراسة نشرتها مؤسسة دولية أخيرا تشير إلى أن أصحاب المهن الرفيعة قد يكونون أول المتضررين من انتشار الذكاء الاصطناعي، وهذا تغيير عميق في فهم علاقة التقنية بسوق العمل، حيث إن الحاصلين على الشهادة الجامعية أكثر عرضة للتأثر سلبا بالذكاء الاصطناعي بمعدل خمس مرات أكثر من الحاصلين على شهادة ثانوية فقط، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن الذكاء الاصطناعي قوي جدا في إكمال المهام التي تتطلب التخطيط والتفكير وحل المشكلات والتنبؤ، وهي مهارات تلقي أعباءها غالبا على أصحاب المهارات العالية.
وهنا سجلت نتيجة مهمة، فالذكاء الاصطناعي سيحل محل بعض الوظائف لكن بعض الوظائف سيظل موجودا أو ستتم إعادة تعريفه أو تغيير طبيعته بفضل الذكاء الاصطناعي. وهذه وجهة نظر الباحثين في علم الاقتصاد الاجتماعي فكل مرحلة من مراحل التطور الاقتصادي لها مجموعة من المهن التي تحظى بتقدير المجتمع لتصبح على سلم التفضيل الاجتماعي، وأن إخراج مهن من المشهد الاجتماعي لتحل محلها روبوتات يسبب للبعض مخاوف نفسية، لكنه لا يؤثر سلبا في حقيقة الواقع الاقتصادي، لأن تلك الوظائف ستستمر بأنماط جديدة وتخصيص جديد للعمل. وهكذا يعود مفهوم التخصيص ليعمل بكفاءة. كما عمل منذ عصور خلت، ويطرح تخصيصا جديدا، ومعه نظريات اجتماعية واقتصادية جديدة، وفي مسح أجرته شركة BMI أشارت إلى أن أكثر من 120 مليون عامل على مستوى العالم سيحتاجون إلى إعادة تدريب، وأن جيل الألفية سيغير وظائفه 17 مرة نتيجة لإعادة تخصيص العمل المرتبط بتطور ذكاء الآلة.

إنشرها