Author

ديون وجائحة وعجز

|

تتزايد الديون نتيجة للإنفاقات الحكومية، والانخفاض من الضرائب، أو الإيرادات الأخرى، التي تتقلب خلال العام المالي من فترة إلى أخرى، فتاريخيا، كان الدين العام للولايات المتحدة يعد حصة في الناتج المحلي الإجمالي، تزيد أثناء الحروب والكساد، ثم تنخفض، وقد تنخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي نتيجة الفائض الحكومي، أو بسبب نمو الناتج المحلي الإجمالي. وعلى مر التاريخ، كانت تراكمات الديون الضخمة تعقبها مشكلات خطيرة، منها تباطؤ النمو، أو ارتفاع التضخم، أو أزمة مالية، أو جميعها معا، لكن لا يمكننا أن نعرف على وجه اليقين أي المشكلات ستحدث، أو ما نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي التي ستشير إلى وقوع مشكلة بالنسبة إلى أي من الدول. ولا شك أن الولايات المتحدة تتمتع بميزة إصدار العملة الاحتياطية الرائدة في العالم، لكن مخاطر التضخم آخذة في الارتفاع، وهو اتجاه سيتسارع بفعل زيادة الإنفاق الممول بالعجز.
ومن الواضح أن أمريكا بحاجة إلى كبح جماح الدين العام المتصاعد، لكن يبدو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن حريص على فعل العكس تماما، والواقع يشير إلى أن المخاطر أكبر من أن نتجاهلها، ففي أعقاب الأزمة المالية لعام 2008، أدار الرئيس باراك أوباما أكبر عجز في الميزانية مقارنة بأي رئيس آخر منذ الحرب العالمية الثانية. وتخطاه في ذلك خلفه، دونالد ترمب. فالواقع أن بايدن يخطط لأن يتفوق على سلفيه، فعلى الرغم من أن إجمالي الدين الفيدرالي الأمريكي يبلغ الآن 107 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم غير مسبوق في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن ميزانية إدارة بايدن لعام 2022 جعلت البلاد تسجل أكبر عجز في وقت السلم على الإطلاق، فالمشكلات بين مجلس الشيوخ والإدارات الأمريكية السابقة المختلفة حول الميزانية، وارتفاع مستوى الدين العام قديمة، متجددة. وتشهد في بعض الأحيان تمردا من قبل عدد من أعضاء مجلسي الشيوخ، والنواب ضد أحزابهم التي تطرح المشاريع الخاصة بالموازنة وغيرها من التمويلات الحكومية والإنفاق.
المشكلة الراهنة على الساحة الأمريكية ليست استثناء، مع تعطيل مجلس الشيوخ المصادقة على طلب إدارة الرئيس جو بايدن، بالموافقة على رفع سقف الدين، فالجمهوريون في هذا المجلس لا يريدون التعاون في مجال كهذا، لأسباب سياسية، واقتصادية في آن معا، إلا أن تعطيل مشروع بايدن، يعني تعطل مؤسسات الدولة، وتخلف الولايات المتحدة عن السداد، وهو أمر لا يمكن أن يحدث في دول كبرى تتصدر المشهد العالمي من حيث حجم اقتصادها، وتأثيرها في الساحة الدولية عموما.
في اللحظات الأخيرة وافق أعضاء مجلس الشيوخ على تعديل بسيط يوقف التعطيل الذي قاموا به، وهو تعديل مؤقت جدا، حيث يمكن للإدارة الأمريكية أن تقترض بواقع 480 مليار دولار إضافية، لتسيير أمور البلاد حتى الشهر الأخير من العام الجاري. المسألة واضحة، فسقف الدين الأمريكي محدد أصلا عند حدود 28.4 تريليون دولار كحد أقصي، بينما سيتم بلوغ هذا الحد في الـ18 من الشهر الجاري، بمعنى أنه إذا لم يمرر مجلس الشيوخ المشروع المشار إليه، فإن الولايات المتحدة ستعجز عن السداد، وهو أمر خطير في دول أقل تأثيرا منها عالميا، فكيف الحال بدولة تتمتع بأكبر اقتصاد على وجه الأرض، وبروابط متشعبة على الساحة الدولية، وبالتزامات محلية ودولية متعددة؟!
الحل الوسط الذي توصل إليه السياسيون الأمريكيون، لن يحل المشكلة الكبرى، فمع انتهاء فترة الزيادة المالية التي تم إقرارها، ستعود المشكلة إلى طبيعتها التقليدية. وستكون هناك معارك سياسية مع نواب وشيوخ الحزب الجمهوري، ولا أحد يمكنه أن يقدم أي ضمانات على اتجاه سيرها، لكن في النهاية الأزمة ستضرب الاقتصاد الأمريكي في حال عدم التوصل إلى حلول وسط دائمة بين المعسكرين الديمقراطي، والجمهوري في المستقبل.
وزيرة الخزانة الأمريكية جانييت يلين، التي خدمت سابقا كحاكم للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، حذرت من أن ركودا كبيرا سيظهر على الساحة المحلية، إذا ما تخلفت البلاد عن السداد، مع الإشارة هنا، إلى أن الولايات المتحدة تعرضت للركود كغيرها من دول العالم بفعل جائحة كورونا، ولا تزال تسير نحو التعافي.
المناورات السياسية على الساحة المحلية صارت معروفة منذ عقود، وبصرف النظر عن الاتهامات المتبادلة، والتهديد بعجز البلاد عن السداد، إلا أن أوضاع سوق السندات، والأسهم الأمريكية لم تتأثر كثيرا بالاضطرابات الإجرائية التي حدثت خلال الأيام القليلة الماضية، بل حققت في بعض الأيام ارتفاعات، ما يؤكد مجددا أن الصراع السياسي على المستوى المحلي لن يؤثر سلبا على المدى المتوسط في الاقتصاد الأمريكي.
الشيء الوحيد الذي سيضرب مصداقية الولايات المتحدة هو العجز عن السداد، وهذا أمر لا يمكن أن تتحمله أي دولة في العالم. لكن الوضع الاقتصادي عموما ليس مثاليا، لأسباب عديدة في مقدمتها ارتفاع سقف الدين العام، إلى جانب الآثار التي تركها وباء كورونا على الاقتصاد العالمي كله.
العجز التجاري الأمريكي قفز إلى مستوى قياسي في الشهر الثامن من العام الجاري، بفعل زيادة الواردات، مع قيام الشركات والمؤسسات بإعادة بناء المخزونات، ما يعني أن النمو الاقتصادي تباطأ في الربع الثالث من العام الحالي، أي أن هناك مشكلات عديدة، ستزيد بالتأكيد، إذا استمرت الخلافات المحلية بين المشرعين الأمريكيين.

إنشرها