السياسية

خسائر فرنسية بالجملة .. وأزمة الغواصات تعيد رسم التحالفات

خسائر فرنسية بالجملة .. وأزمة الغواصات تعيد رسم التحالفات

الصدمة الفرنسية كبيرة.

تغيرت ملامح التحالفات الدولية في العقد الأخير، الذي يشهد انقلابا على المفاهيم السائدة سابقا، فلم يعد الحلفاء كما كانوا عليه، وكل طرف منهم يغني على ليلاه، إذ تعمل الإدارة الأمريكية على تأكيد محوريتها المطلقة، متوقعة من حلفائها أن ينصاعوا، دون أن تعتمد نهجا تشاوريا، خصوصا بعد تحالف أوكوس الجديد، الذي يجمعها مع بريطانيا وأستراليا، لتكون أول نتائج هذا التحالف خسارة لفرنسا، لكن باريس استبقت الأحداث بنظرة أخرى، حيث سبق أن زار وزير الخارجية الفرنسي بكين، وقال "الشراكة أمر ضروري مع الصين، لكي يكون الغرب على مستوى تحديات العصر الكبيرة".
نقطة البداية للتحالفات الجديدة، النهج السياسي الأمريكي في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي بسط نفوذه على حساب حلفاء بلاده دون أي مراعاة لاعتبارات الشراكة بمستوياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وكان الأوروبيون تحديدا، وبوتيرة أقل الكنديون، يتنفسون الصعداء حتى لا يتم التمديد للرئيس الجمهوري لفترة رئاسية ثانية، لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن الأوروبية، ليكون الرئيس الديمقراطي جو بايدن أكثر ضررا للحلفاء، سائرا على نهج سلفه، لكن بخطاب ناعم.
الصدمة الفرنسية كبيرة، إذ عدت باريس خطوة إلغاء صفقة الغواصات الأسترالية مع شركة "نافال جروب" الفرنسية، التي بلغت قيمتها نحو 56 مليار دولار طعنة في الظهر، فالصفقة البديلة سينتج عنها أن تبني أستراليا ثماني غواصات تعمل بالطاقة النووية بتكنولوجيا أمريكية وبريطانية، حيث سبق أن خسرت فرنسا، تحديدا شركة صناعة الطيران الأوروبية "إيرباص" من العقوبات الأمريكية على إيران، عقودا مع ناقلين إيرانيين هما "إيران إيرتور" و"طيران زاجروس" لبيع مائة طائرة في المجمل، في صفقة تقدر قيمتها بنحو عشرة مليارات دولار، كذلك شركة النفط الفرنسية العملاقة "توتال"، التي واجهت خطر خسارة عقد بقيمة خمسة مليارات دولار للمساعدة على تطوير حقل غاز بارس الجنوبي، أما على صعيد سوق السيارات فكانت خسائر الشركات الأوروبية العملاقة في مجال تصنيع السيارات، كالعملاق الألماني فولكسفاجن الذي أعلن في 2017 استئنافه بيع السيارات في إيران للمرة الأولى منذ 17 عاما، فيما أثرت العقوبات بشكل كبير في عقود شركة بي إي أس، خاصة بعد النجاح الكبير الذي حققته في السوق الإيرانية ببيعها 160 ألف سيارة خلال فترة الاتفاق النووي.
هذه الخسائر وما سيتبعها من ضياع لفرصة "صفقة العمر"، كما وصفتها الصحافة الفرنسية"، لن يعوضها أن تدفع الحكومة الأسترالية نحو 295 مليون دولار كشرط جزائي قانوني، إضافة إلى ما يمكن أن تطلبه فرنسا في المحاكم كتعويضات إضافية، فإلغاء الصفقة أثار الغضب الفرنسي والأوروبي تجاه أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، لتتخذ باريس موقفا سريعا بإلغاء احتفالية مشتركة مع الولايات المتحدة كان من المفترض أن تعقد في سفارتها في واشنطن أخيرا، الحدث الرئيس يعني - بحسب مراقبين - أن الإدارة الأمريكية تستنزف ما تبقى لواشنطن من سمعة وثقة لدى حلفائها في القارة العجوز، وأن التفاؤل الأوروبي بإصلاح الرئيس الأمريكي ما أفسده سلفه دونالد ترمب بات يصطدم بحقيقة مختلفة، إذ تعد فرنسا أكبر حليف لواشنطن، ما أثار شكوكا لدى بولندا وأوكرانيا بمدى التزامها بأمنهما، كما أزعج الاتحاد الأوروبي بقرارات أحادية الجانب، خصوصا بعد فوضوية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
الصحافة الأسترالية قالت "إن حكومتها سبق أن درست إلغاء برنامج غواصاتها مع الشركة الفرنسية منذ فبراير الماضي"، حيث أهدرت الحكومة حتى تلك الفترة نحو 1.7 مليار دولار من أموال الخزينة الأسترالية، ونحو خمسة أعوام من التطوير والبناء في أحواض فرنسية وأسترالية، وعلى الرغم من أن الضرر لن يتوقف على المستوى المادي للحكومة، وسيصل بلله بشكل كبير إلى العمالة الأسترالية نفسها بعد وقف العمل في بناء هذه الغواصات في أستراليا.
الخارجية الفرنسية قالت "إن باريس تحتاج إلى توضيح وتفسير من أستراليا بشأن قرارها التراجع عن الصفقة"، منتقدة هذا القرار الأحادي والوحشي الذي لا يمكن التنبؤ به، فهو يشبه إلى حد كبير ما كان يفعله الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، مشددة علی أن "فرنسا أقامت علاقة ثقة مع أستراليا، وهذه الثقة تتعرض الآن للخيانة"، موضحة أن "المفاوضات بين الدولتين بدأت في 2014 وانتهت في 2016 بعقد تم توقيعه بعد تحليل جيوستراتيجي للوضع في أستراليا، الذي أخذ في الحسبان بالتالي القرب الجغرافي للصين".
وبالبراجماتية المعهودة، قال أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي أخيرا، "إن فرنسا شريك حيوي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وإن واشنطن ستواصل التعاون مع باريس"، ويبدو أن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي هذه تهدف إلى تهدئة الغضب، مضيفا "نتعاون بشكل وثيق للغاية مع فرنسا في عديد من الأولويات المشتركة في المحيطين الهندي والهادي، وأيضا في جميع أنحاء العالم، سنواصل القيام بذلك، نحن نولي أهمية كبيرة لتلك العلاقة وتلك الشراكة"، كما حاولت المتحدثة باسم البيت الأبيض صرف النظر عن تعلق الموضوع بالصين قائلة "إن الاتفاق الذي أعلن أخيرا، ليس موجها نحو الصين، على الرغم من شعور الولايات المتحدة بالقلق المتزايد إزاء تأثير الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادي"، مضيفة "نحن لا نسعى إلى صراع مع الصين".
بلا شك ستنعكس حالة الجفاء بين باريس وواشنطن على ملفات عدة، أبرزها القضية الفلسطينية وإعادة إحياء مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكذلك الملف النووي الإيراني، فإن كلا الملفين لا يزال متعثرا بعد تسعة أشهر من تسلم الإدارة الأمريكية، إذ قد تتعامل باريس من منطلق الانتقام مع الحليف الأمريكي فيما يتعلق بهذا الملف، خصوصا مع وجود نقاط خلاف جوهرية أهمها: إصرار طهران على الحصول على ضمانات بأن الرئيس الأمريكي القادم لن يتخلى عن الاتفاق، كما فعل الرئيس السابق ترمب 2018، وكذلك الخلافات حول نطاق تخفيف العقوبات، حيث أصرت طهران على ضرورة رفع العقوبات كافة، بما فيها العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب خلال العامين الماضيين، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، مقابل التزام طهران في مجال تخصيب اليورانيوم.
إلى ذلك، تظهر التطورات المتعلقة بالتحالفات عودة بريطانية إلى الواجهة، بعد ركود في سياستها الخارجية، إذ يعد مراقبون دخول بريطانيا على الخط خطوة انتقامية من فرنسا، التي سبق أن تعاملت بقسوة مع لندن عقب انسحابها من الاتحاد الأوروبي، وتطبيق قرارات صعبة بحقها، التي كان آخرها التهديد بمنع اللوائح التي من شأنها أن تسمح للشركات المالية البريطانية بممارسة الأعمال التجارية في أوروبا، إذا لم تحترم بريطانيا التزامات خروجها من الاتحاد الأوروبي بشأن الصيد، حيث أرسلت باريس زورقين إلى المياه المحيطة بجزيرة جيرسي، التابعة للتاج البريطاني في القناة الإنجليزية، ردا على إجراء بريطاني مماثل.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية