Author

رأس المال البشري .. المفاهيم والقوة

|

رأس المال البشري يعد من أحدث المفاهيم في عالم الاقتصاد، فبينما كان يعتقد بأن رأس المال في شكل أصول يتم استخدامه في إنتاج السلع والخدمات، بقيت مفاهيم العمل تتركز حول ما تضيفه يد الإنسان من قوة تسهم في تحويل المواد الخام إلى منتج نهائي، وكانت نظرية التوزيع تعد الأجور جزءا من المصروفات، التي تستنفد خلال إنتاج السلع، لكن دخول عصر الآلة وتنامي دورها في عمليات الإنتاج واحتلالها مساحات واسعة من الأعمال اليدوية الشاقة، التي كان يقوم بها العمال، أحدث ثورة في العلاقات الاقتصادية التي استقرت نحو قرنين من الزمان. ومع تزايد النمو الاقتصادي للدول، نظرا إلى انتشار المعرفة والتوسع في المهارات، فقد تصاعدت حدة المنافسة على الأسواق. وسيطرت مخاوف بأن الآلة الذكية ستسحب الوظائف من الناس، كما أن الدراسات أثبتت أن قدرة الشعوب تعتمد على إعادة تشكيل العمل باستمرار من خلال التقدم التكنولوجي وتجديد الفرص الوظيفية وزيادة الإنتاجية.
هذه القضايا الحديثة جعلت من الابتكار والمعرفة المتقدمة بلغة الآلة عوامل حاسمة في النمو والازدهار الاقتصادي ورفاهية المجتمعات، كما أن التحولات الأساسية في النظرية الاقتصادية عموما أحدثت ارتباطا بين حجم الطلب الكلي، وبين معدلات التوظيف وتحسين القدرة الشرائية وبين الصحة العامة بين أفراد المجتمع والحالة التعليمية كذلك، فكلما تطورت عوامل الصحة والتعليم والتنمية البشرية نمت القدرات الابتكارية والمهارات اللازمة للتعليم الآلي، وارتفعت بذلك العوائد بأنواعها الرأسمالية والتوزيعات النقدية والمكافآت حتى العوائد الاجتماعية والبيئية، وبهذا تحولت مفاهيم العمل واعتباره مجرد مصرف مستنفد بالخدمات التي يقدمها العمال، إلى رأسمال يسهم في تعظيم الإنتاج والعوائد، خاصة أن رأس المال البشري يتألف من المعارف والمهارات والقدرات الصحية التي يتم الاستثمار فيها، وتتراكم لدى الأشخاص على مدار حياتهم بما يمكنهم من استغلال إمكاناتهم كأفراد منتجين في المجتمع.
وأشار تقرير البنك الدولي عن التنمية في العالم والطبيعة المتغيرة لبيئة العمل إلى أن المهارات المطلوبة تتحرك بسرعة، ما يتيح فرصا، وينطوي في الوقت نفسه على مخاطر، وأنه ما لم تتم تقوية رأس المال البشري، فلن تتمكن الدول من تحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل، كما لن تكون لديها قوة عاملة مؤهلة لشغل الوظائف، التي تتطلب مستوى رفيعا من المهارة والكفاءة في المستقبل، ولن تنافس بفاعلية في الاقتصاد العالمي. ولأن رؤية المملكة 2030 هي رؤية للمستقبل، ورؤية حملت الآمال نحو ازدهار اقتصادي يندمج فيه الذكاء الاصطناعي مع الابتكار، وتعامل الإنسان مع الآلة، تم إطلاق مشاريع عملاقة مثل نيوم ومدينة ذا لاين، وهي مدن ذكية متقدمة. ولتحقيق هدف النمو المستدام، فإن الرؤية لم تغفل تنمية رأس المال البشرى كأحد مرتكزاتها، وفق خطة استراتيجية طموحة تهدف إلى إطلاق قدرات كل فرد في هذا الوطن ليكون مستعدا ومتسلحا بمهارات المستقبل.
وانطلقت الرؤية منذ خمسة أعوام وتضمنت في برامجها كثيرا من الجهود الجبارة من أجل إصلاح هيكل القطاعات الاقتصادية وتشكيلها بما يتوافق مع برامج الرؤية ومستقبل الاقتصاد السعودي، فتم إطلاق هيئات ذات خصوصية، مثل الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، والهيئة السعودية للفضاء، لتعمل جنبا إلى جنب مع هيئة المحتوى المحلي، كما تم دمج وزارة الخدمة المدنية مع وزارة العمل باسم وزارة الموارد البشرية، وغير ذلك من جهود مهدت الطريق لأحد أهم برامج رؤية المملكة 2030، وأكثرها طموحا، وهو البرنامج الذي أطلقه الأمير محمد بن سلمان، لتطوير وتنمية القدرات البشرية لينطلق بالاقتصاد السعودي فعليا نحو مفاهيم رأس المال البشري، وتعزيز إسهامه في رفاهية المجتمع، وتعظيم الإنتاجية والعوائد بكل أشكالها المادية والاجتماعية والبيئية. وكما قال ولي العهد، فهذا البرنامج النوعي يمثل استراتيجية وطنية تستهدف تعزيز تنافسية القدرات البشرية الوطنية محليا وعالميا، من خلال تعزيز القيم، وتطوير المهارات الأساسية ومهارات المستقبل، وتنمية المعرفة.
ورغم أن مفاهيم تنمية رأس المال البشري تأخذ مسارات مختلفة تباعا، فإن المسار الذي تم تبنيه في هذا البرنامج، يؤكد رغبة ولي العهد في تنمية شاملة للإنسان السعودي بدءا من مرحلة متقدمة في العمر من خلال تطوير أساس تعليمي متين للجميع مرورا بالجامعات والمعاهد الفنية والتقنية لإعداد شباب واع لدوره، يمتلك المهارات والمعارف لمواكبة متطلبات سوق العمل المختلفة والمتنوعة، مع إتاحة فرص التدريب والتعلم مدى الحياة من خلال تهيئة توفير فرص التطوير وإعادة التأهيل للجميع.
ولهذا، فخطة البرنامج تتضمن عددا كبيرا من المبادرات بلغ 89 مبادرة لتحقيق 16 هدفا استراتيجيا مبنية على ثلاث ركائز رئيسة، وهي تطوير أساس تعليمي متين ومرن للجميع، والإعداد لسوق العمل المستقبلية محليا وعالميا، وإتاحة فرص التعلم مدى الحياة. ولأن مبادرات البرنامج للجميع، فقد شملت تنمية قدرات منذ سن مبكرة، ومبادرة التوجيه والإرشاد المهني للطلاب لتمكينهم من فهم الواقع المهني وتحديد توجهاتهم وتنمية مهارات لرسم خطة التنمية الشخصية مع مبادرات إتاحة فرص التعلم مدى الحياة لزيادة معدلات التوظيف وتمكين المبدعين ورواد الأعمال. كل ذلك لتطوير مخرجات التعليم لمواءمتها مع احتياجات سوق العمل، وتوطين الوظائف عالية المهارات من خلال التأهيل والتدريب.
إن تطوير رأس المال البشري يعني أن يصبح الطلب على الموظف السعودي ووجوده في مقار العمل لتحقيق العوائد وتعزيز القيمة السوقية للمنتجات وأسعار الأسهم، ولهذا فإن بناء سمعة جيدة للتعليم السعودي يعد مرتكزا أساسا، ولتحقيق ذلك فقد شمل البرنامج دخول جامعتين سعوديتين ضمن أفضل 100 جامعة في العالم بحلول 2030، وتقوية مهارات التفكير الإبداعي وتحليل البيانات، إضافة إلى تطوير المهارات الاجتماعية والعاطفية، ما يدعم التنافسية ويحقق متطلبات الثورة الصناعية الرابعة.

إنشرها