Author

الفرص الوظيفية بين طرفي النقيض

|
من الممكن جدا أن تتحدث كمدير أو صاحب عمل عن صعوبة الحصول على خريج متميز ومؤهل، وكيف أن مثل هذا تتنافس عليه الجهات، للحصول عليه واستبقائه، وكيف أن بعض تحديات المسار المهني عند هؤلاء تصل إلى مقاومة إغراءات الفرص الوظيفية المتكاثرة حوله كل شهر وموسم. ومن الممكن جدا، وللتخصص نفسه، أن تتحدث عن خريج مشابه للأول، لكن لا يريده أحد، وكأن الباب موصد أمامه. رأيت مثل هذا التناقض يحصل في تخصصات هندسية وإدارية وتقنية، وفي الزمان نفسه، وأحيانا في المدينة والمنطقة نفسها.
يبدي البعض استغرابه عند ملاحظتهم مثل هذه التناقضات في سوق الوظائف، وربما يفترض ببساطة أن الفرص الممتازة التي تبحث عن أصحاب الإمكانات مجرد كذبة كبيرة، أو أن الفرص موجودة لكنها محجوزة مسبقا لمن يملك الواسطة. تدمر مثل هذه الأفكار الحافز الذاتي الذي يحسن من تأهيل واستعداد الباحث عن عمل، وبالتالي تقلل من فرصه الضعيفة أساسا.
الجزم أن الفرص الوظيفية متاحة للجميع بشكل متساو لا يقبله العقل، وسوق العمل تعج بكثير من المتغيرات التي تغير في نسب وأعداد الباحثين عن العمل بشكل يومي، ولو تم تشريح السوق وفق القطاعات والتخصصات وطبيعة الأعمال وأماكنها لوجدنا قصصا وأنماطا مختلفة. هناك بكل تأكيد أعمال تنمو بشكل كبير وتبحث عن الكفاءات بشراهة، وهناك ما هو على النقيض من ذلك. وهناك تفويج مستمر لأصحاب المهارات المتميزة، لكن هناك أيضا تفويج مستمر لأصحاب المهارات الأقل والأضعف. وهكذا تختلف قدرة الباحث عن عمل على النجاح في الحصول على مراده - الوظيفة - وفق حالته وحالة السوق التي يجتهد بالبحث فيها.
وللمقاربة بين حالتي النقيض هذه أرى أن هناك مجموعتين من العناصر التي يمكن للباحث عن عمل أن يتحكم بهما، وهناك مجموعات أخرى لا يتحكم بها، لكن بإمكانه التكيف معها بعد فهمها. أما ما يمكن أن يتحكم به ويسيطر عليه وهو ما يجعله أبعد عن الطرف الأضعف الذي قد يشعر في لحظة من اللحظات باليأس والإحباط، فهو يقوم أولا على جودة مادته كعنصر منتج أو قابل للإنتاج وصنع القيمة، وثانيا على قدرته على إظهار ذلك والوصول به إلى مكمن الفرص. والمثال الأبسط هو المقارنة بين خريج متدني الدرجات، لا يملك اهتمامات جانبية تعكس مهارات إضافية، ولا يجيد اللغة الثانية، ولا يملك خبرات تدريبية أو من مؤشرات الاهتمام والجدية والإنتاجية شيئا. ومثل هذا تجده يعرض ما يملك من ضعف للإمكانات بشكل ضعيف أيضا، فهو ضعف مركب، سيرته المكتوبة متواضعة، ولا يصل بسيرته إلى الأماكن التنافسية، والطريقة الوحيدة التي يقدم بها هي المواقع الإلكترونية والبريد الإلكتروني وربما زار بعض الجهات عند مكاتب الاستقبال. وعلى النقيض من ذلك، نرى خريجا متوسطا أو مرتفع الدرجات، متخرجا من مؤسسة موثوقة، لديه عدد متنوع من الاهتمامات الجانبية المهنية والشخصية، يجيد اللغة الثانية، وحصل على خبرات تدريبية عدة مرات وقام بأعمال جانبية توضح طموحه وحماسه واتقاده. إضافة إلى هذا، يجيد عرض سيرته الذاتية بشكل مختصر ومركز ولافت، ولا يكتفي بذلك، إذ يحضر الفعاليات ويحاول التواصل مع الخبراء في مهنته المستهدفة، ولديه مما يظهر عليه كحالة مهارية ما ينبئ بكثير. من الطبيعي أن تكون حظوظ هذين الشخصين مختلفة تماما.
لكن، لا يمكن تحميل كل الأسباب على الباحث عن عمل، فالسوق تختلف وتتغير باستمرار وظروفها تتنوع من جهات تبحث عن مؤهلين بجودة معينة، إلى جهات تمر بدورات من حياتها تحاول فيها الاستغناء عن الموظفين وليس استقطابهم. وقد تمر مواسم معينة تتأثر فيها حتى أفضل المنشآت توظيفيا فتؤجل حركة الاستقطاب إلى أجل لا يسمى وقد تحصر التوظيف في أصحاب الخبرات وغير ذلك. وفي مثل هذه الظروف التي لا يسيطر عليها الباحث عن عمل يجب عليه ألا يكل ولا يمل، بل يحاول فهم السوق وظروفها وأن يتكيف معها، سواء باختيار المتاح الأفضل، أو بتعديل المسار، أو بالتنازل عن بعض مفاهيمه وتوقعاته بشكل واقعي ومؤقت.
أكثر ما يثبت الباحث عن عمل في أدنى درجات سلم التوفيق وحسن النصيب هو التدني في نوعية وجودة إمكاناته إضافة إلى طريقة وأسلوب بحثه عن الفرص، ويتدهور هذا الحال أكثر إذا رافقه كبرياء وجهل، مثل من يرفض التحول عن مسار تخصصه أو يؤجل البذل، أو من يبرر لذاته سوء حظه بتجاوز الآخرين عليه أو من لا يصدق أن الفرص قابلة للتحقق. لهذا نقول: إن الوعي المهني المبكر هو الحل الأمثل للتقليل من هذه التناقضات التي قد يكون من الصعب القضاء عليها كلية.
إنشرها