تقارير و تحليلات

أزمة نقص حاويات الشحن البحري .. المستهلك يدفع الثمن

أزمة نقص حاويات الشحن البحري .. المستهلك يدفع الثمن

أزمة نقص حاويات الشحن البحري .. المستهلك يدفع الثمن

أزمة نقص حاويات الشحن البحري .. المستهلك يدفع الثمن

عندما يتم الحديث عن تحديات التجارة العالمية في الوقت الراهن، فإن الحوار ينصب على المشكلات التي تواجه سلاسل التوريد.
وعند التطرق إلى المعضلات التي تعانيها سلاسل التوريد، فالنقاش يتركز على عمليات الشحن البحري، حيث تنقل أغلب السلع والبضائع بين القارات عن طريق البحار والمحيطات. وبالطبع فإن بحث قضايا الشحن البحري يعني أن النقاش سيضع نصب عينيه المشكلات والتحديات التي تواجه سفن الشحن.
لا يجادل أحد حاليا بأن سلاسل التوريد العالمية تعاني اضطرابا ناجما عن تأثيرات وباء كورونا، التي خلفت أزمة شحن عالمية، لكن جوهر الأزمة المتمثل في ارتفاع تكلفة الشحن، لا يقع على سفن الشحن، بل على النقص الحاد في "الحاويات"، فقد ارتفعت قيمة حجز حاوية 40 قدما لشحن البضائع من آسيا إلى شمال أوروبا من 2500 دولار قبل آذار (مارس) 2020 إلى تسعة آلاف دولار الآن.
وبعض التجار في المملكة المتحدة يشيرون إلى أنهم دفعوا مبلغ 30 ألف دولار للشحن بسب نقص الحاويات، بينما ارتفعت تكلفة البضائع المنقولة من آسيا إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة بنسبة 145 في المائة.
في الواقع، يوجد ما يمكن وصفه "بالاستخفاف" أو عدم الاهتمام بأهمية الحاويات وتوافرها للتجارة الدولية، فغالبا ما يتم التعامل مع التجارة الدولية من نظرة أيديولوجية عبر الصراع بين العولمة والحمائية، أو أن يتركز الاهتمام على طبيعة وتفاصيل الاتفاقيات الدولية في هذا المجال، دون أن يبالي أحد باختراع بسيط، ربما كان له دور محوري في حقيقة الأمر في تعزيز التجارة الدولية، هذا الاختراع هو "الحاويات".
كثير ينظر إلى الحاويات باعتبارها صناديق فولاذية ليس أكثر أو أقل، وبالفعل، فالحاوية في نهاية المطاف صندوق فولاذي بأحجام مختلفة، لكن تأثير هذا الصندوق كان كبيرا في مسار التجارة الدولية.
ولفهم هذا التأثير يكفي القول إنه قبل اختراع الحاويات كانت عمليات تحميل السفن بالبضائع والسلع تتم في أغلبها بشكل يدوي، وعلى الرغم من استخدام الخطافات الفولاذية والسلاسل الحديدية لسحب البضائع وترتيبها على ظهر السفن حتى لا تتحرك وتقع أثناء الإبحار، فإن تلك العملية كانت تتم ببطء شديد، تفاديا للحوادث ولضمان سلامة العمال، وكان ترتيب السلع وتصنيفها على ظهر سفن الشحن يتطلب أحيانا الفترة الزمنية ذاتها التي تقضيها السفينة في الإبحار من ميناء الشحن إلى ميناء الوصول.
باختصار كانت عملية الشحن قبل الحاويات مكلفة وتستغرق وقتا طويلا ومحفوفة بالمخاطر بالنسبة إلى عمال الميناء.
وبدون الدخول في التفاصيل فإن حرب فيتنام لعبت الدور الأكبر في تعزيز عالم الحاويات، إذ كان الجيش الأمريكي في حاجة إلى تلك الحاويات لنقل كميات ضخمة من المعدات والأسلحة إلى أرض المعركة، وكان مالكوم ماكين رجل الأعمال الأمريكي من باع تلك الفكرة للجيش الأمريكي، لكن الأهم أنه أدرك إمكانية استخدام تلك الحاويات عند عودة السفن الأمريكية من فيتنام، وذلك عبر المرور على اليابان، حيث يمكن ملء الحاويات الفارغة بالبضائع اليابانية.
وهكذا بدأ عالم الحاويات في الازدهار، حيث كان من الأسهل والأسرع نقل الحاويات من السفينة إلى الميناء، وتطلب هذا إحداث تغيرات ثورية في تصميمات أرصفة ومنصات الموانئ، لتكون قادرة على استقبال الحاويات العملاقة ونقلها من السفينة إلى رصيف الميناء، ولاحقا تم تطوير سفن الشحن ذاتها لتكون قادرة على الحفاظ على الحاويات في درجات حرارة ملائمة للإبقاء على ما بداخلها من أطعمة ومواد غذائية بعيدة عن التلف، والأهم فإن الحاويات أسهمت بشكل كبير في خفض تكاليف الشحن البحري
الآن المشهد لا يسير في مساره التاريخي المعتاد. فمع انتشار وباء كورونا من مركزه في الصين، نفذت الدول عملية إغلاق، ما أسفر عن إيقاف الحركة الاقتصادية والعملية الإنتاجية، وأغلق عديد من المصانع بشكل مؤقت، ما أدى إلى توقيف عدد كبير من الحاويات في الموانئ، كما خفضت شركات الشحن عدد السفن التي تبحر لنقل البضائع والسلع، لم يؤد ذلك إلى كبح جماح الاستيراد والتصدير فحسب، لكن يعني خاصة بالنسبة إلى التجار الآسيويين أن عشرات آلاف وربما ملايين من الحاويات ظلت في موانئ الولايات المتحدة وأوروبا ولم تعد إلى آسيا.
ومع تعافي آسيا واستئناف الصين التصدير في وقت كان فيه الوباء يجتاح أوروبا والولايات المتحدة، وكان فيه الأوروبيون والأمريكيون يتبنون مزيدا من سياسات الإغلاق، احتجزت الحاويات وبدأت تتراكم خاصة مع عدم وجود أعداد كافية من عمال الموانئ للتعامل معها، وحتى مع التخلص من قيود الإغلاق، فإن كثيرا من الحاويات لا تزال متراكمة في موانئ أمريكا الشمالية، التي تعاني اختلالا بنسبة 40 في المائة، بمعنى أن مقابل كل مائة حاوية تصل إلى الميناء تتم إعادة تصدير 40 فقط، وهذا الرقم مذهل بالنظر إلى أن طريق التجارة بين الصين والولايات المتحدة يحافظ على متوسط 900 ألف حاوية شهريا.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" جوزيف والتر رئيس اتحاد شركات الشحن البريطانية، "بعد أن قام عديد من الدول بتلقيح أعداد كبيرة من مواطنيها وأعيد فتح اقتصاداتها ارتفع الطلب على السلع الاستهلاكية بشكل كبير، والموانئ لم تتكيف جيدا مع هذا الوضع، كما أن مشكلات أخرى مثل إغلاق قناة السويس لبعض الوقت، أدى إلى طوابير من سفن الشحن العالقة أمام الموانئ في انتظار السماح لها بتفريغ حمولاتها من الحاويات، وتأخرت تلك السفن في العودة إلى آسيا حيث يأتي الجزء الأكبر من الإنتاج العالمي من السلع، ونتيجة لذلك هناك نقص شديد في حاويات الشحن حاليا في آسيا".
وعلى هذه النتائج فإن الطلب على الحاويات ارتفع ومعه زادت تكلفتها، ما أجبر شركات الشحن على فرض أسعار شحن أعلى لتغطية التكلفة.
بدورها، أشارت لـ"الاقتصادية" إيملي بيل الباحثة في التحالف العالمي للشحن إلى وجود ثلاثة أسباب أدت إلى نقص الحاويات، "أول الأسباب يتمثل في ازدحام المنافذ، نتيجة أشهر من انخفاض قوة العمل داخل محطات الشحن، وفي الوظائف الداعمة مثل سائقي الشاحنات، وقد تسبب هذا في تأخير كبير في السفن، ووضع قيود على الأحجام التي يمكن تحملها، وثاني الأسباب انخفاض عدد السفن العاملة على المستوى العالمي نتيجة تباطؤ التجارة العالمية، كما أن عددا كبيرا من السفن ذهب للتجديد، وتوقف بعض السفن نظرا لوجود حالات إصابة بكورونا بين طواقم الإبحار، وآخر الأسباب، تغير تدفق السلع، فالتغييرات في سلوك الشراء لدى المستهلكين والتطورات غير المتوقعة في وباء كورونا، أدت إلى حدوث عديد من المخالفات في التجارة العالمية، وهذا زاد بشكل كبير من أعباء تكلفة النقل".
تشير الأرقام الدولية إلى وجود أكثر من 170 مليون حاوية شحن في جميع أنحاء العالم، تستخدم لنقل نحو 90 في المائة من البضائع على المستوى الدولي، وقد تركت مضاعفات وباء كورونا آثارا سلبية في خطوط الشحن العالمية نتيجة تراكم الأعمال المتأخرة، ونقص الأيدي العاملة، وانخفاض القدرة في الأنظمة اللوجستية. وكشفت فترة الوباء أن الصين ليس لديها ما يكفي من الحاويات المتاحة لتلبية الطلب، بحيث قفز متوسط أوقات توفير الحاويات من 60 يوما إلى مائة يوم.
ويزيد من تعقيد الموقف أن إنتاج الحاويات الجديدة منخفض بشكل كبير، حيث تتجاوز الآن عملية تحويل الحاويات إلى خردة لبناء حاويات جديدة، وقد ارتفعت أسعار الحاويات الجديدة خاصة في الصين التي تهيمن على إنتاج الحاويات عالميا، إذ قفز سعر الحاوية الجديدة من 1600 دولار العام الماضي إلى 2500 دولار الآن، كما ارتفعت أسعار التأجير بنسبة 50 في المائة في الأشهر الستة الأخيرة.
من جانبه، قال لـ"الاقتصادية" أيان ماكيلين مالك شركة الشحن البريطانية مارتيم سيرفيس، "إن الصين تدفع حاليا أسعارا مميزة للمستوردين لإعادة الحاويات، ما يجعل إرسال الصناديق الفارغة أكثر ربحية بدلا من إعادة تعبئتها، كما أن خطوط الشحن ترفض الحجوزات الصادرة، حيث إنها تريد الإسراع بإعادة الحاويات إلى الشرق الأقصى، ونتيجة ذلك أن الحجوزات تتم الآن بناء على أساس الربحية والأهمية الاستراتيجية، وهذا يأتي على حساب شركات الشحن الصغيرة والمتوسطة".
تلك الأزمة في الحاويات تدفع إلى الترجيح أن تسهم في ارتفاع معدلات التضخم في الفترة المقبلة، وذلك مع قيام المستوردين بنقل تكلفة الشحن إلى العملاء، ويخشى عديد من العاملين في مجال الشحن أن تشهد الفترة الممتدة من تشرين الأول (أكتوبر) حتى كانون الأول (ديسمبر) المقبل ارتفاعا في أسعار كثير من السلع.
تلك الفترة تتزامن مع رأس السنة الميلادية في أوروبا والولايات المتحدة، حيث يرتفع الطلب الاستهلاكي على معظم المنتجات التي تأتي من الصين ومنطقة شرق وجنوب شرق آسيا، وفي ظل الازدحام الراهن في الموانئ العالمية ونقص الأعداد المتاحة من الحاويات، فمن المتوقع أن تتجه معظم السفن وبما تحمله من عدد محدود من الحاويات إلى الأسواق الاستهلاكية الكبرى، ما يعني نقص المعروض بالنسبة إلى باقي دول العالم، وينبئ ذلك باحتمال ارتفاع معدلات التضخم بشكل ملحوظ قبل نهاية هذا العام.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات