أخبار اقتصادية- عالمية

«الدخل الأساسي الشامل» .. دعم براق لتكاليف المعيشة بعواقب اقتصادية

«الدخل الأساسي الشامل» .. دعم براق لتكاليف المعيشة بعواقب اقتصادية

خلال جائحة كورونا قامت الدول بعملية دعم مكثف للعديد من القطاعات الاقتصادية والفئات الاجتماعية المتضررة.

«الدخل الأساسي الشامل» .. دعم براق لتكاليف المعيشة بعواقب اقتصادية

لا تفاجأ بما سنخبرك به، ولا تتعجل فتأخذك الأماني والتوقعات بعيدا عن الواقع، وتعد ما يتضمنه هذا التقرير مسارا عالميا سيسير فيه الجميع عاجلا أم آجلا، لكن الأكيد أنها أفكار جريئة يجري الآن تطبيقها واختبارها في بعض الدول والبلدان، ولكن هناك أيضا شعوب ترفض الفكرة، وتعدها ضارة بالاقتصاد والمجتمع.
الفكرة باختصار منح كل فرد في المجتمع، سواء كان ذكرا أم أنثى، وسواء كان يعمل أم لا، أو كان لديه أطفال أم لا، مبلغا ماليا محددا بصورة منتظمة لتغطية التكاليف الأساسية للمعيشة. فإذا كانت التكلفة الأساسية للمعيشة في مدينة مثل لندن ألف جنيه استرليني شهريا، فإن الحكومة البريطانية ملزمة بدفع هذا المبلغ لكل مواطن شهريا، بغض النظر عن أوضاعه المالية والمعيشية.
للوهلة الأولى، قد يسأل البعض من سيرفض اقتراحا مثل هذا، فالفكرة تحمل في طياتها كثيرا من البريق، ولها جاذبيتها الإنسانية والاجتماعية، لكن هل لها فائدة وجدوى اقتصادية؟ ما المخاطر التي تحملها بين جوانبها؟ وهل طبقها أحد بالفعل؟ وهل رفضها آخرون؟
أحدث من طبق فكرة الدخل الأساسي الشامل كان إقليم ويلز، أحد الأقاليم الأربعة التي تتألف منها المملكة المتحدة "إنجلترا وأسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية"، إذ قررت حكومة الإقليم منح مبلغ ثابت من المال بغض النظر عن الوضع الوظيفي. الفكرة لا تزال في مرحلة التجريب على أي حال، فاستطلاعات الرأي تشير إلى أن 69 في المائة من السكان يؤيدون التجربة، ووقع أكثر من 500 سياسي في المملكة المتحدة على رسالة تطالب الحكومة البريطانية بالنظر إلى خطط مماثلة، وصوت 32 مجلسا محليا لمصلحة تجربة المشروع في مناطقهم.
بالطبع، إقليم ويلز ليس حالة فريدة، فهناك تجارب مشابهة إلى حد ما في كندا وكوريا الجنوبية وكينيا، واستطلاعات الرأي العام في أوروبا تشير إلى أن ثلثي السكان يؤيدون فكرة الدخل الأساسي.
لكن المثير للاهتمام، لماذا يرفض ثلث السكان الذين استطلعت آراءهم، الفكرة؟ لماذا منح كل شخص مبلغ منتظم من المال يغطي الاحتياجات الأساسية؟ فكرة مرفوضة وغير مرغوب فيها بالنسبة إلى البعض، لا أعرف إذا كنت ستفاجأ أم لا لو عرفت أن الشعب السويسري قد أجرى استفتاء في هذا الشأن في منتصف عام 2016، وجاءت نتيجة الاستفتاء برفض 78 في المائة من الناخبين لهذا المقترح.
يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور مات أوزبورن أستاذ النظم الضريبية في جامعة ساري، "البعض يرفض الفكرة من منطلقات أيدلوجية، ظنا منه أنها تحمل بصمة يسارية، لكن في الواقع لا يوجد شيء يساري في قضية تتعلق بالعدالة وتوفير حد أدنى من الأمان الاقتصادي لجميع المواطنين".
ويضيف "ربما يكون المصدر الرئيس للقلق متعلقا أكثر بعدم قدرة الاقتصاد حتى في البلدان الغنية على تحمل التكلفة الإجمالية لهذا المقترح، فالمضي قدما في تطبيق تلك الفكرة سيؤدي حتما إلى زيادة في ضرائب الدخل، خاصة على الفئات الاجتماعية الأكثر ثراء".
لكن أنصار فكرة الدخل الأساسي الشامل لا ينكرون أنها ستتضمن زيادة في ضرائب الدخل، ولكن لن تكون - بالضرورة - زيادة حادة، ويمكن تفاديها نسبيا عبر تقليل المبلغ الذي يتم إنفاقه على الإعفاء الضريبي للشركات والأفراد الأثرياء.
المثير أن بعض كبار الأثرياء في العالم، مثل الملياردير إيلون ماسك ووارن بافت، أعربا عن تأييدهما للفكرة، وقد صبغا عليها أبعادا فلسفية، حيث عدا أن دخل المجتمع كله يرجع في كثير من الأحيان إلى جهود عديد من الأجيال السابقة، وليس "ما نقوم به نحن"، فثراء المجتمع الياباني ليس وليد اللحظة، إنما نتيجة مجهود عديد من الأجيال اليابانية.
ومن ثم عد إيلون ماسك ووارن بافت، الدخل الأساسي الشامل، شكلا من أشكال العائد على الثروة العامة الموروثة التي "تركها لنا أباؤنا وأجدادنا وأسلافنا الأولون، وندفعها بالتساوي لأننا لا نستطيع أن نعرف من أسهم من أسلافنا أكثر أو أقل في صناعة ثروة المجتمع".
في الواقع، فإن الإجراءات التي تبنتها عديد من حكومات العالم خلال فترة جائحة كورونا، وتضمنت في جزء كبير منها القيام بعملية دعم مكثف لعديد من القطاعات الاقتصادية والفئات الاجتماعية التي تضررت بشدة من الوباء، قد أتاحت لمقترح الدخل الأساسي الشامل، مزيدا من الشعبية، وبأن الفكرة قابلة للتطبيق على أرض الواقع دون أن تحدث هزات حقيقية للاقتصاد الوطني.
فتفشي وباء كورونا كشف مدى اتساع الفجوة بين الأثرياء والآخرين بشكل كبير في الأعوام الأخيرة، وكشف أيضا أن شبكة الأمان الاجتماعي التقليدية في البلدان المتقدمة غير كافية في الظروف الاستثنائية. كل هذا أكسب - دون شك - مقترح الدخل الأساسي شعبية كبيرة.
لكن كما تقول الدكتورة فيكتوريا سميث أستاذة المالية العامة في جامعة أكسفورد، إن على المرء أن يكون حذرا من الحلول البسيطة للمشكلات المعقدة.
وتقول لـ"الاقتصادية" إن "الدخل الأساسي الشامل فكرة معيبة لأسباب ليس أقلها أنها ستكون باهظة التكلفة، وستؤدي حتما إلى تخفيضات كبيرة في باقي شبكات الأمان الاجتماعي، ففي الولايات المتحدة حيث عدد السكان 327 مليون نسمة، والدخل الأساسي يقدر بألف دولار شهريا، فإن الميزانية السنوية ستحمل بأربعة تريليونات دولار، وهذا يتطلب مضاعفة عائدات الضرائب الفيدرالية، الأمر الذي من شأنه أن يفرض تكاليف ستسفر حتما عن تشويه الاقتصاد".
من المنطلق الانتقادي للفكرة ذاته، يشير الباحث الاقتصادي جاسون كولمان قائلا، "هناك مخاوف من أن يقلل هذا المقترح حافز الناس للعمل، فمفهومنا للحياة الكريمة نسبي، ومن خلال الحصول على دخل أساسي مضمون، قد نواجه بمشكلة نقص في الأيدي العاملة، وتفضيل البعض الاكتفاء بالدخل الأساسي مع بعض الأعمال الإضافية المحدودة للغاية، عن العمل لساعات طوال، ما يعني تراجع الإنتاج، في الوقت ذاته، فإن توفر السيولة المالية وتراجع المنتج من السلع والخدمات، يعني أموالا أكثر تسعى إلى اقتناص كميات محدودة من السلع والخدمات، والنتيجة ارتفاع معدلات التضخم".
تلك الأفكار ربما تجد دعما لها في سؤال بسيط، لكنه جوهري، إذا كان يحق للمستضعفين اقتصاديا الحصول على الدعم، فإن الأفراد من أصحاب الدخل المتوسط والمرتفع سيتلقون وفقا لفكرة الدخل الأساسي الشامل، دعما أيضا، فهل يحق لهم ذلك؟ وهل يحق أن يحصل الجميع على دعم مالي، بدلا من تركيز المساعدة لمن يحتاجون إليها؟
يعتمد الرافضون للمقترح في الوقت الراهن على أن جميع الاقتصادات المتقدمة غارقة في الديون، ومعدل نمو الإنتاجية منخفض لديها، كما أن الشيخوخة التي تضرب أغلب الاقتصادات المتقدمة، مثل اليابان وألمانيا وهولندا، وحتى التوقعات الراهنة بشأن تنامي الشيخوخة في الصين، يعني أن هناك زيادة هائلة تلوح في الأفق في معاشات التقاعد ونفقات الرعاية الصحية، ولهذا فإن الاقتصادات المتقدمة في حاجة إلى توليد مزيد من الدخل، وليس إثقال كاهلها بعجز الميزانية.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" البروفسير هاردي سكوت أستاذ الاقتصاد الاجتماعي السابق في جامعة ويلز وأحد أبرز المنظرين لمقترح الدخل الأساسي، "على المستوى الاقتصادي المباشر سيساعد تعميم الدخل الأساسي على تحقيق نمو إيجابي في الوظائف، وفي البلدان النامية سيخفض من معدلات التسرب من المدرسة، ويحمي الأسرة من تدني الأجور وتباطؤ نموها، خاصة للعاملين في القطاع الخاص، كما أن القوة الشرائية الناجمة عنه ستؤدي إلى نمو الاقتصاد وزيادة الإنتاج".
ويضيف، "لكن حصر رفاهية البشر في مجموعة من المعادلات الاقتصادية الرقمية الجافة، أمر شديد الضرر بالبشر وبعلم الاقتصاد، فجميع التجارب التي طبق فيه الدخل الأساسي الشامل شهدت تراجعا في الضغط النفسي الذي يتعرض له الفقراء، ومن ثم تحسنت مستويات الصحة النفسية لديهم، بل تراجع العنف المنزلي. وفي كينيا، حيث أجريت تجارب لتطبيقه، ساعد ذلك على زيادة مستويات السعادة والرضا عن الحياة وانخفضت معدلات التوتر والاكتئاب، فعلينا أن نتذكر أن جوهر علم الاقتصاد الإنسان وليس المال".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من أخبار اقتصادية- عالمية