Author

السياسات النقدية وثغرات الصلاحيات

|

يتفق خبراء الاقتصاد والمال على أن من أبرز مهام وصلاحيات البنك المركزي في أي بلد أنه يعد مؤسسة مالية تؤسسها الدولة لإدارة المهام المالية الرئيسة، ورسم السياسة النقدية العامة والإسهام في تنفيذها، وأن له عديدا من المهام والوظائف الاقتصادية الأخرى، مثل: صلاحيات إصدار العملة المحلية، وتنفيذ الإجراءات التي تضمن المحافظة على قيمتها، والرقابة على نشاط البنوك، والإشراف على آلية تنفيذ السياسة المالية، وتنظيم كمية النقود المتداولة.
ومن هذا التعريف الأساسي المبني على مفاهيم ومصطلحات مالية، فإن مسألة استقلالية البنوك المركزية تعد ركنا وإرثا قديما في كثير من الدول، خاصة المتقدمة منها. وعلى الرغم من أنه كانت هناك جهات تعارض مثل هذه الاستقلالية، على اعتبار أن الحكومات عليها وحدها تحديد السياسات النقدية، بما في ذلك مستويات التضخم وأسعار الفائدة، إلا أن الأمور جرت باتجاه هذا الوضع خلال العقود الثلاثة الماضية.
وإذا أخذنا حكومة حزب العمال في بريطانيا مثالا بوصف هذا البلد من أقدم الدول التي تستخدم فيها مفاهيم مالية، فنجد أنها أقدمت على هذه الخطوة في تسعينيات القرن الماضي، على الرغم من تعارض الفكرة نفسها مع المبادئ العمالية التي تستند إلى امتلاك الدولة وسائل الإنتاج والخدمات والمؤسسات الكبرى. وبالفعل، أسهمت استقلالية البنوك المركزية في حراك مرن للمصارف، إلى درجة أن بعض الحكومات كانت تخشى التصادم أو حتى الاختلاف معها، خوفا من أي تأثيرات سلبية قد تنعكس على الساحة الاقتصادية عموما.
في كيان مثل "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، الذي أسس في عام 1961، ويضم 37 دولة، تعتمد معظم هذه الدول على استقلالية بنوكها المركزية، واعتمدت هذا المنهج بشكل متفاوت، وبعد خلافات محلية حول جدوى منح الاستقلالية لهذه البنوك، فيما اعتمد كثير من الدول خارجها المسار نفسه. وتوفر الاستقلالية الحق في اختيار محافظي البنوك ومجالس إداراتها، أي أنه لا دور محوري للحكومات، مع ملاحظات لا تنتهي حول الاستقلالية المفرطة لمحافظي البنوك المركزية المستقلة.
ويبدو واضحا أن الحكومات التزمت بالفعل باحترام هذا المبدأ، ولا سيما تلك التي تحكم في دول تعتمد النظام السياسي البرلماني، فالتدخل الحكومي سيتم تفسيره على أن النظام النقدي في هذا البلد أو ذاك يعاني الاضطراب، أو غياب الانسيابية بين القرارات الحكومية الاقتصادية، وقرارات البنوك المركزية، الأمر الذي سيشوش حتما على الحراك الاقتصادي العام. لكن هناك من يرى أن بعض الأحداث الكبرى التي حدثت على الساحة العالمية، أفرغت موضوع استقلالية البنوك المركزية من محتواه، بما في ذلك الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في عام 2008، وبالطبع الأزمة الاقتصادية الراهنة الناجمة عن تفشي وباء كورونا، فعلى الرغم من أن الحكومات تدخلت بكل قواها من أجل إنقاذ المؤسسات التي تضررت في الأزمتين المشار إليهما، إلا أن القرارات التي اتخذتها البنوك المركزية بصورة مستقلة، لا توفر الدعم اللازم في هذا المجال، وإن كانت لا تتعارض تماما مع التحرك الحكومي، دون أن ننسى، أن بعض البنوك المركزية المستقلة تعمل بالفعل على التنسيق المستمر مع الجهات الحكومية المختصة، إلا أن القرارات النهائية تعود إلى محافظي المصارف.
فعلى سبيل المثال، يرى معارضون للاستقلالية المفرطة لهذه البنوك، أنها استخدمت أدوات غير تقليدية، بما في ذلك اعتماد أسعار الفائدة السلبية، وإلى حد ما التيسير الكمي، وقد أسهم ذلك في تعميق الأزمات المالية في كثير من الأحيان، ولا بد من التأكيد أنه لا يوجد ما يجبر حكام البنوك المركزية على استشارة الحكومات قبل اتخاذ أي قرارات تتعلق بالسياسة النقدية في البلاد. ومن هنا، كان ينظر إلى محافظي البنوك الذين يحرصون على تنسيق ما مع الحكومات، أنهم الأفضل أداء مقارنة بأولئك الذين تمسكوا بكل المعايير المستقلة التي منحت لهم، لكن أيضا هناك جوانب سلبية كبيرة جدا لأي تدخل حكومي في هذا المجال، ليس لأن قرارات البنوك أكثر جودة، بل خوفا من استخدام الحكومات للقدرات النقدية، والاستنفاع منها على الصعيد السياسي.
إنها مسألة معقدة بعض الشيء، ولا بد من توضيح كثير من المعايير في هذا المجال، فإذا كانت مسؤولية البنك المركزي المستقل تحديد مستوى التضخم، فلا دخل للحكومة في هذا الأمر، ولكن ماذا لو اتخذت هذه البنوك سياسات نقدية تعمق أزمات اقتصادية أكثر مما تسهم في حلها؟ هنا يجب أن تكون الصورة واضحة، والعلاقة بين الطرفين أكثر شفافية والتزاما.

إنشرها