Author

صراع على ساحة المال

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"ما يسمى اتفاق المعادلة بين المملكة المتحدة وأوروبا لم يحدث أبدا"
ريتشي سوناك، وزير مالية بريطانيا
حسنا لنترك مشكلة إيرلندا الشمالية بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا جانبا، فهذه القضية التاريخية تحمل معها معوقاتها منذ أن انفجرت قبل أكثر من قرن من الزمن. كما أنها ستظل مثارا لخلافات بين لندن وبروكسل قبل أن يشهد الطرفان الشكل النهائي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست". ومن المفيد الإشارة السريعة هنا إلى أن المملكة المتحدة خرقت اتفاق الانفصال، بعدم وضع حدود بينها وبين إقليم إيرلندا الشمالية التابع لها، لحماية الحدود الأوروبية مع جمهورية إيرلندا المستقلة العضو الكامل في الاتحاد الأوروبي. إنها مسألة بريطانية أوروبية عالمية، ولا سيما أن الولايات المتحدة الضامن لاتفاق السلام بين الإيرلنديتين قبل عقدين من الزمن، أعلنت بوضوح أنها لن تقبل المس بالحدود المفتوحة بين إيرلندا الجنوبية والشمالية التي يضمنها هذا الاتفاق.
هذه المسألة ستظل حاضرة على ساحة الاتفاق وليس الاتفاق بين بروكسل ولندن، لكن القضية التي لا تقل أهمية كثيرا عن الحالة الإيرلندية، لا تزال متفاعلة بصورة خطيرة أيضا، ولا سيما أنها لم تدرج أساسا ضمن مفاوضات الخروج بين الجانبين، وتركت للمرحلة المقبلة. إنها تلك التي تختص بالقطاع المالي. فبريطانيا التي تفتخر بأنها المركز العالمي الأهم في الخدمات المالية، تواجه لاحقا ملفات عديدة في هذا الميدان، علما بأنها لا تزال تعمل حتى اليوم وبعد سبعة أشهر من خروجها النهائي من دائرة الاتحاد الأوروبي، بالقواعد والقوانين المالية للاتحاد. ولهذا السبب، يمكننا أن نفهم تحركات وزير الخزانة في المملكة المتحدة لمراجعة شاملة، للقواعد والقوانين واللوائح المنظمة لحي سيتي أوف لندن بعد "بريكست"، وهذا الحي هو أهم مركز مالي عالمي على الإطلاق.
تخلي بريطانيا نهائيا عن المعايير الأوروبية في القطاع المالي كان منتظرا بالطبع، بعد تنفيذ اتفاق الخروج، لكن هناك تشابكات كبيرة لا يبدو أنها ستحسم قريبا بين الطرفين، حيث سيضع مشكلة الانفصال المالي جنبا إلى جنب المصيبة الإيرلندية. فصادرات الخدمات البريطانية تدر على المملكة المتحدة 77 مليار دولار سنويا. لكنها ظلت خارج المفاوضات مع الأوروبيين حتى اليوم. والأمر صار مفهوما. فالمسألة معقدة إلى درجة أنها تحمل معها متفجراتها التفاوضية. ولأن اتفاق بريكست طبق اعتبارا من العام الجاري، فقد منحت المفوضية الأوروبية بريطانيا حلا مؤقتا، يسمح ببعض المعاملات المالية، وليس كلها إلى حين التوصل لاتفاق نهائي فيما يرتبط بالخدمات المالية. والمثير في الأمر أن ريتشي سوناك وزير المالية البريطاني، عدّ أن مثل هذا الحل ليس موجودا أصلا.
واللافت هنا أن هذا الحل أو الاتفاق المؤقت الذي طبق اعتبارا من بداية هذا العام، لم يوقف خسائر حي المال في لندن على الإطلاق. فمشكلات الخروج البريطاني أدت كما هو معروف إلى مغادرة مؤسسات مالية ومصارف دولية حي المال في العاصمة إلى مدن أوروبية مختلفة، ولا سيما فرانكفورت الألمانية التي تحتضن البنك المركزي الأوروبي. وهذه النقطة تخشى منها بريطانيا كثيرا. فالصناعة المالية في المملكة المتحدة تمثل نحو 50 في المائة من الفائض التجاري في البلاد. وتقرض البنوك البريطاني نحو 1.4 تريليون دولار لشركات ومؤسسات حتى حكومات في الاتحاد الأوروبي. وتستحوذ لندن على أغلب الأنشطة المالية التي يتم تنفيذها على الساحة الأوروبية. أضف إلى ذلك أن 87 في المائة من موظفي البنوك الاستثمارية في الكتلة الأوروبية يعملون في العاصمة البريطانية.
وإذا أضفنا المشكلات التي ستظهر لاحقا على صعيد عمليات المقاصة في بريطانيا، فإننا أمام ملف مليء بالتشعبات والخلافات والمشكلات. فقد حاولت السلطات البريطانية ثني عشرات العاملين الأوروبيين في القطاع المالي عن العودة إلى دولهم، حتى بعد أن قدمت لهم تسهيلات مغرية بعض الشيء كأجانب. كما أن الحكومة البريطانية التي وصلت إلى الحكم في الواقع بحماسها الشديد لإتمام "بريكست" بأسرع وقت، تخشى من الحراك الذي يجري حاليا على ساحة الاتحاد الأوروبي، بجلب مركز المقاصة المالية في لندن إليه. فأغلب عمليات المقاصة باليورو تجري في عاصمة المملكة المتحدة، وتصل وفق بعض التقديرات إلى ما يوازي 2.5 تريليون يوميا. ويريد الأوروبيون أن يكونوا الجهة الرئيسة في عمليات المقاصة هذه، خصوصا تلك المقومة باليورو. والحق أنهم كانوا يسعون لذلك حتى قبل أن تطرح مسألة "بريكست".
المرحلة المقبلة في العلاقات بين بروكسل ولندن ستشهد توترا سياسيا كبيرا. فالقطاع المالي هو أهم القطاعات على ساحة المملكة المتحدة. ففي الأشهر القليلة الماضية مثلا تراجعت حصة سوق لندن من التداولات العالمية في المشتقات، علما بأن حجم المشتقات المالية الأوروبية يقدر بـ 20 تريليون دولار. ووفق الأرقام المتداولة في حي المال في لندن، فقد انتقلت عمليات تداول مشتقات استثمارية بمعدل عشرة مليارات دولار يوميا من هذا الحي إلى أمستردام وباريس. ووتيرة الانتقال هذه ستتزايد في الأشهر المتبقية من العام الجاري. لكن التصادم التفاوضي المقبل سيكون قويا بين طرفين زالت بوضوح مشاعر الصداقة بينهما على الأقل في هذه المرحلة.
إنشرها