Author

بريكست .. محطات قابلة للانفجار

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"بريكست أسوأ قرار سياسي على الإطلاق"
جون ميجور، رئيس وزراء بريطاني سابق

ستتواصل تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست» على مدى أعوام، وربما تأتي في المستقبل حكومة قد تتمكن من إعادة طرح الموضوع على استفتاء عام آخر، إلا أن الأمر لن يكون سهلا، بل فيه من التعقيدات الكثير. ينشغل البريطانيون كبقية الشعوب حاليا بصورة كبيرة بمسألة تفشي وباء كورونا المستجد ومتحوراته التي يبدو أنها لا تتوقف، رغم تحسن الأوضاع بعض الشيء في مناطق مختلفة حول العالم. لكن متعلقات بريكست ستظل ماثلة أمامهم، بل ستتفاعل لأعوام مقبلة، خصوصا أن هناك مشاريع لم تحسم تماما، ضمن اتفاق الانسحاب الموقع بين لندن وبروكسل. بل تظهر على الساحة أشياء لم تكن أساسا في الحسبان، وفي أحسن الأحوال لم تكن من الأولويات. فروابط تعود لـ 50 عاما تقريبا، لا يمكن أن تنهى بقرار أو حتى باتفاق موقع.
كان من ضمن الخلافات في مفاوضات الانسحاب بين الطرفين، التسوية المالية مع بريطانيا التي يجب أن تدفعها كعضو منسحب من التكتل. وهذه التسوية يعرفها الجميع، إلا أن الحكومة البريطانية حاولت الالتفاف حولها على مدى ثلاثة أعوام، ولم تفلح في تحقيق أي هدف على ساحتها. المملكة المتحدة مطالبة، وفق تقرير مجمع لميزانية الاتحاد الأوروبي لعام 2020، بدفع 47.5 مليار يورو. المثير في الأمر أن وزيرة المالية البريطانية كانت تقدر الأموال المستحقة بأقل عند نحو 41 مليار يورو، لكن المفوضية الأوروبية قدمت بالفعل قائمة بالمستحقات، التي ليس على لندن أن تسددها دفعة واحدة، وسيتم تقسيطها في الفترة المقبلة. المهم أن تقبل حكومة بوريس جونسون، بهذه المطاليات المالية، وكل شيء قابل للمرونة.
ورغم أن الجانب المالي يشكل عثرات كبيرة بين الجانبين، إلا أنه لا يساوي شيئا من حيث الأهمية مقارنة بمستقبل العلاقة بين بريطانيا وإقليم إيرلندا الشمالية التابع لها. فلندن وافقت وسط استغراب عالمي حقا، أن تضع حواجز جمركية ضمن حدودها (أي مع نفسها)، من أجل إبقاء الحدود مفتوحة بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا المستقلة، وفق اتفاق السلام في الجزيرة الإيرلندية الذي رعته الولايات المتحدة قبل 20 عاما، وأنهى نزاعا دمويا حصد مئات الأرواح، بمن فيهم مدنيون من الجانبين البريطاني والإيرلندي. وبسبب الضغوط التي جلبها فيروس كوفيد - 19، وافقت المفوضية الأوروبية على إبقاء الحدود مفتوحة بين بريطانيا وإيرلندا الشمالية، لمدة ثلاثة أشهر، لكن لندن تجاوزت هذا الاتفاق، دون حتى الرجوع لبروكسل.
يتفاعل هذا الأمر في الآونة الأخيرة، وأكد الأوروبيون أنهم سيمضون إلى آخر مدى من أجل إجبار المملكة المتحدة على احترام الاتفاق الذي وقعته. إلى جانب مسألة محورية أخرى تتعلق بانتقال مصارف عديدة من لندن إلى الجانب الأوروبي، حيث تسعى بريطانيا إلى التخلص من القواعد المالية الأوروبية التي لا تزال تلتزم بها على أساس عضويتها السابقة في الاتحاد. والمشكلة أن هذه القواعد تحتاج إلى وقت لن يكون قصيرا من أجل تغييرها، ووضع أخرى جديدة تسعى بريطانيا من خلالها إلى الاحتفاظ ما أمكن على موقعها المالي العالمي الأول. هذا الأمر لا علاقة للاتحاد الأوروبي به، لأنه يرتبط بمدى سرعة ومرونة تغيير القوانين ومواءمتها مع الوضعية الجديدة للمملكة المتحدة لدولة حرة في عقد اتفاقاتها المالية مع بقية الدول.
الضغوط تتزايد على حكومة بوريس جونسون، الذي استطاع الوصول إلى السلطة عبر قيادته حملة خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي. وهذه الضغوط تتعلق بالعوائد التي وعد بها من جراء إتمام بريكست. فحتى الآن لم ير الناخب البريطاني الذي صوت للخروج أي مكاسب عملية على الأرض، بل هناك مشكلات عالقة ومتفاقمة وحساسة أيضا. وهناك توجه جديد متصاعد حتى ضمن الشريحة التي أيدت بريكست نحو المطالبة بكشف حساب الخروج. علما أن الاستطلاعات الأخرى للآراء بدأت تظهر ميلا متصاعدا أيضا ضد الخروج البريطاني بالفعل، خصوصا بعد أن تبين أن هناك عوائق ما على انتقال البريطانيين إلى ساحة الاتحاد الأوروبي، ولا سيما أولئك الذين يعيشون في دول الاتحاد بصورة دائما.
أضف إلى ذلك أن بريطانيا لم توقع بعد على أي اتفاق تجاري مع أي دولة ذات شأن، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي وجد رئيسها جو بايدن، أن أولوياته يجب أن تبقى باتجاه الاتحاد الأوروبي، وبعد ذلك المملكة المتحدة، علما أن جونسون كان يراهن على اتفاق تجاري خاص مع واشنطن بأسرع وقت ممكن، وتلقى وعدا علنيا من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، بعقد هذا الاتفاق بمجرد إتمام الخروج من الاتحاد الأوروبي. المشكلة أن ترمب هو الذي خرج من الحكم، وأتت إدارة تؤمن بالتحالفات الواسعة أكثر من العلاقات الثنائية. مشكلات بريكست لن تنتهي قريبا، وهناك قضايا متفجرة وعلى رأسها المسألة الإيرلندية التي لا تعرف بريطانيا بالفعل حلا حاسما لها، فضلا عن الاتفاقات التجارية الثنائية التي لن تشكل مجتمعة قيمة توازي حجم الاتفاقات مع الكتلة الأوروبية التي تستورد أكثر من نصف الصادرات البريطانية.
إنشرها