Author

انتعاش وانكماش .. اقتصادات منقسمة 

|

 
مع انتشار فيروس كوفيد - 19، تبين للعالم أن العلاجات والبروتوكولات المعروفة لم تكن ناجعة ولا مناسبة لطرح حلول جذرية لمواجهة تداعيات الفيروس الذي ضرب كل العالم دون استثناء، وهذا الأمر صحيح أيضا مع القضايا الاقتصادية الراهنة، التي تسببت فيها الجائحة. فالتضخم المتسارع يقلق العالم، حيث تبدو المعالجة المعروفة بشأنه وتستند إلى رفع أسعار الفائدة، غير ناجعة أو مقلقة على أفضل تقدير.

وكما كان العالم يتذكر جائحة الإنفلونزا الإسبانية في عشرينيات القرن الماضي، أصبح الجميع الآن يردد أحاديث أزمة التضخم في سبعينيات ذلك القرن عندما أطل على العالم مفهوم الركود التضخمي لأول مرة، وكيف أن التضخم يقود إلى البطالة، بينما كان الأصل أنه بسبب قوة الانتعاش الاقتصادي والعمالة الكاملة. لقد جاهد العالم لعقود بعد تلك الظاهرة ليس لفهمها فقط، بل لاحتواء آثارها الصعبة.

اليوم صدرت تقارير دولية من مثل تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية من البنك الدولي، ترى أن الانتعاش القوي في مناطق من العالم يقابله انكماش في مناطق أخرى، هذا التفاوت سببه الأساس حجم استجابة الدول للآثار الاقتصادية والصحية للجائحة، سواء في شكلها المالي أو النقدي، فبينما بلغ مستوى الدعم والتسهيلات 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الدول ذات الدخل المرتفع، فإنه لم يتجاوز 3 في المائة في الدول الناشئة والنامية.

وفي وقت تعاني فيه الدول المنخفضة الدخل ضائقة ديون، فهي تواجه تحديات انعدام الأمن الغذائي وارتفاع أسعار المواد الغذائية لملايين البشر وقلة إنتاج يقابله ارتفاع استهلاك. إذا هناك انتعاش في نصف العالم وهناك انكماش في نصفه الآخر، وإذا تمت معالجة الأول، فإن الثاني سيواجه أزمة لم يشهد التاريخ مثيلا لها، وإذا تم التساهل لدعم الثاني، فإن الأول قد يشهد خروج مارد التضخم من القمقم كما فعل في أوائل السبعينيات.

هكذا وصف التقرير الدولي وضع العالم اليوم، فبعض أجزاء الاقتصاد العالمي شديدة السخونة وتواجه غليانا وصعوبة جمة، بينما تكون أجزاء أخرى شديدة البرودة. وبهذا الوصف فنحن أمام ظاهرة مركبة، فبينما بلغ التضخم في الولايات المتحدة في أيار (مايو) 5 في المائة، وهو أعلى ارتفاع له منذ نحو 13 عاما، فقد سجلت الصين أيضا أسعار إنتاج في نيسان (أبريل) الماضي هي الأعلى منذ نحو أربعة أعوام، لكن الأسوأ قد حل فعلا في نيجيريا مع وصوله إلى مستوى 18 في المائة، وكذلك في تركيا 17.14 في المائة.

ولتصبح الصورة أكثر وضوحا، فإنه ووفقا لتقرير آفاق الاقتصاد العالمي، ستستعيد 94 في المائة من الدول ذات الدخل المرتفع قيمة الناتج المحلي الإجمالي للفرد، لكن هناك فقط 40 في المائة من الدول النامية قادرة على تحقيق هذا. وفي تقرير اقتصادي تم استطلاع آراء عدد من الخبراء في العالم عن هذا المشهد المرتبك، فإن هناك من يرى أن التضخم لن يدفع باتجاه زيادة المرتبات، ذلك أن مرده ليس بسبب أسعار الفائدة، بل بسبب ارتفاع العرض مقابل الطلب، ولذلك يرى أن "ضغوط التنافس" ستعوق ارتفاع الأسعار على المدى الطويل.

ويرى خبير آخر أن "نقص العمالة في الصناعات الرئيسة هو السبب، وسيستمر فترة أطول، لكن هذا التفاوت في الآراء يعكس المشهد الذي يراه كل خبير، فمن يرى الاقتصادين الأمريكي والصيني، فإن التضخم يعود بسبب قوة الطلب، والمنافسة ستكون الحل، ومن يلاحظ ويتابع المشهد في الدول النامية، يدرك أن فرص العمل المتناقصة ستستمر طويلا. ومن تلك النقاط التي تم ذكرها وسردها، فإنه ما زال الجدل محتدما حول مخاطر ضغوط التضخم في الاقتصادات الرئيسة حول العالم، خصوصا في أكبر اقتصاد في العالم، وهو الولايات المتحدة، وما يزيد من حدة الجدل، تسارع معدلات تطعيم عشرات الملايين بلقاحات فيروس كورونا واحتمال أن تكون إجراءات الإغلاق الحالية في بعض الدول هي الأخيرة في وجه الاقتصاد.

لهذا، فإن التفاوت لا يزال دون علاج قريب، وقدرة الاقتصاد العالمي على العمل بشكل متزامن أصبحت محل شك، فرفع أسعار الفائدة سيقود حتما إلى مضاعفات كبيرة جدا في الدول الأكثر برودة، التي ستتدفق منها الأموال بسبب الركود والانكماش لتلحق بركب أرباح أسعار الفائدة والسندات، وهذا يعني كارثة ديون مقبلة على هذه الدول.

كما أن هناك قرارات مؤلمة جدا، بل يمكن أن تعود موجة طويلة من الاضطرابات، في مشهد منقول عن حقبة السبعينيات، حيث ارتفاع الأسعار مع الركود يقود إلى ارتفاع معدل البطالة، فعدم التسرع في اتخاذ قرارات بشأن رفع أسعار الفائدة يعد حلا مناسبا الآن، وإذا تم التعديل فإنه لن يكون حادا، لأن رفع أسعار الفائدة بحدة - كما يرى البعض - سيتسبب في ركود حاد حتى في الولايات المتحدة، وهذا يكون سيئا ومؤلما جدا للدول النامية الضعيفة.

ولأنه لا يمكن الفصل بشكل واضح ودقيق في الحالة الراهنة ما لم تنجلي أزمة كوفيد - 19 تماما، فأسلم طريق هو ما يسلكه الاحتياطي الفيدرالي من حيث التعامل ببطء شديد فوق العادة، والاستمرار في اتباع السياسة النقدية الحالية أملا في خروج سريع للعالم بشكل كامل من أزمة الوباء.

إنشرها