Author

حكاية الذهب والدولار

|
لا جدل أن الدولار هو العملة العالمية المقبولة للتعامل في جميع أرجاء المعمورة. لكن حكاية ارتباط الدولار بالذهب والغطاء الذهبي للعملات موضوع مثير للنقاش في كثير من المجالس، يفضي أحيانا إلى اتهام الولايات المتحدة باستغلال دول العالم، كونها تقوم بسك الدولار دون غطاء من ذهب، ومن ثم تشتري من العالم ما تريد، لكن الأمر ليس بهذه البساطة أبدا، فهناك تاريخ طويل لارتباط العملات أو تغطيتها بالذهب، وفي مقدمتها الدولار، الذي يحظى بعشق الملايين سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات.
​لقد استوقفني هذا الموضوع كغيري، خاصة مع كثرة اللبس والغموض الذي يحوم حوله، فأحببت أن أدلو بدلوي لعلي أكتب ما يفيد لتوضيح أبعاد الموضوع، أو إثارة مزيد من النقاش حوله.
​فمن المعروف، أن الذهب معدن نفيس كان يستخدم بجانب الفضة للمقايضة على مر التاريخ البشري، ويعتقد أن أول استخدام للذهب في عمليات البيع والشراء كان عام 643 قبل الميلاد، واستمر هذا الاستخدام إلى العصور الحديثة، لكنه تحول كغطاء للعملة من أجل تحديد قيمتها، بعد أن تطورت العملات من المعدنية إلى الورقية، ومن ضمنها الدولار. لكن الأمور لم تستمر على هذه الحال، نتيجة صعوبة تغطية العملات في الأزمات وأوقات الحاجة إلى زيادة الإنفاق.
​وبدأت قصة فك ارتباط الدولار بالذهب بعد الحرب العالمية الأولى، لكنه عاد وارتبط بالذهب مرة أخرى، ثم أصبح مرجعية للعملات بعد توقيع اتفاقية بريتون وودز عام 1944م، نتيجة عدم قدرة الدول المتقدمة على تغطية عملاتها بالذهب، ومن ثم رغبتها في التخلي عن المعيار الذهبي، أي التغطية بالذهب، ومنذ ذلك الوقت ارتبط سعر الصرف لجميع العملات بالدولار، ومن ثم سمحت هذه الاتفاقية للدول الأخرى بدعم عملاتها بالدولار بدلا من الذهب. وبعدما خاضت الولايات المتحدة حرب فيتنام خلال الفترة (1956م - 1975م)، وتزايدت حاجتها إلى مزيد من الدولارات لتغطية تكاليف الحرب، وواجهت تحديات كبيرة في أن الذهب الموجود في الولايات المتحدة لم يعد كافيا لتغطية طباعة مزيد من الدولارات مع أنها تمتلك في ذلك الوقت أكثر من 75 في المائة من الذهب في العالم، أعلن الرئيس نيكسون التوقف عن تغطية الدولار بالذهب. ولم يؤثر ذلك كثيرا في قوة الاقتصاد الأمريكي من جهة، ولقرار منظمة "أوبك" بربط أسعار البترول بالدولار من جهة أخرى، ما جعل الدولار أقوى عملة في العالم، واحتل مكانة كبيرة كعملة الاحتياطي النقدي العالمي، إذ يشكل الدولار أكثر من 60 في المائة من احتياطي النقد الأجنبي العالمي، ويليه اليورو بثلث هذه النسبة تقريبا.
ولا شك أن للغطاء الذهبي فوائد كبيرة، من أهمها وجود أصول تدعم قيمة العملة، ما يقلل من حدوث عجز في الميزانية، وأهم من ذلك يقلل حدوث التضخم الذي قد يحدث بسبب وجود كثير من النقود لشراء قليل من السلع والخدمات، ما يفقد النقود بعض قيمتها. لكن طباعة الدولار دون الغطاء الذهبي تحدث بشكل مدروس من قبل وزارة الخزانة الأمريكية والاحتياط الفيدرالي لضبط التضخم والتحكم في تدفق العملة إلى الأسواق، ومن ثم المحافظة على ثقة العالم بالدولار.
ونتيجة للثقة بالاقتصاد الأمريكي، يبقى الدولار سيد العملات، بل العملة العالمية بجدارة في المعاملات التجارية والاحتياطي العالمي، لأن نحو 90 في المائة من تداولات العملات الأجنبية تنطوي على الدولار، ويشكل الدولار أكثر من 60 في المائة من جميع احتياطيات النقد الأجنبي للبنوك المركزية، ويستخدم الدولار في إصدار نحو 40 في المائة من ديون العالم، وعلاوة على ذلك ينافس العملات المحلية في المعاملات التجارية في بعض الدول في آسيا وأمريكا اللاتينية.
والتساؤلات المهمة: هل الولايات المتحدة تطبع العملات وتعيش على حساب الدول الأخرى؟ وكم من العملات التي تطبعها؟ وكيف تحدد كميتها؟ وما آليات ضخ العملة النقدية في الأسواق؟ تساؤلات مهمة، لكن الإجابة عنها ليست سهلة. في كل الأحوال، فإن الدولار هو الذي يضبط إيقاع النظام المصرفي العالمي، ويراعي معدلات التضخم.
​ أخيرا: رغم الديون الخارجية للولايات المتحدة والعجز المتزايد في الميزانية، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بالثقة العالمية العالية بقدرتها على سداد التزاماتها لقوة الاقتصاد الأمريكي مهما تعرضت من تحديات وأزمات كأزمة 2008. وهذه الحقيقة تزيد من صعوبة تحقيق دعوة الصين وروسيا لإنشاء عملة دولية واحدة جديدة تكون ملاذا آمنا للاحتياطي العالمي بدلا من الدولار. ولغياب البدائل الممكنة، فمن المرجح أن يظل الدولار أقوى عملة عالمية في المستقبل المنظور.
إنشرها