ثقافة وفنون

رحيل الجابري .. في راهنية المشروع عربيا

رحيل الجابري .. في راهنية المشروع عربيا

حلت هذه الأيام، 3 أيار (مايو)، الذكرى الـ11 لرحيل محمد عابد الجابري، المفكر والفيلسوف المغربي، تاركا فراغا كبيرا في الحقلين الثقافي والسياسي، يتسع نطاقه ومداه عاما بعد آخر، ولا سبيل إلى التخفيف من وطأته غير استرجاع الإرث الفكري للراحل، حيث يجتمع النقد بالتحليل والبحث في النصوص تراثية كانت أم حديثة، وتحضر المواقف المبدئية والعقلانية والواقعية من قضايا العالم المعاصر بتناقضاته وتحولاته الكبرى، أملا في أن تسعفنا روحه النقدية، في فهم واقع عربي معتل، حولت الفتن الأيديولوجية مجتمعاته أطيافا وقبائل.
ليس من المبالغة في شيء، القول إن راهنية أعمال الجابري تتزايد، لجهة صلابة ومتانة الأطروحة التأسيسية في مشروع الجابري من ناحية، ومن ناحية أخرى، للحاجة الماسة إلى استعادة قضايا الإصلاح والتحديث والديمقراطية وبناء الدولة الوطنية، في ضوء نتائج تعثر أو إخفاق محاولات التغيير التي شهدتها أقطار عربية عديدة، جراء استفراد تيارات سياسية معينة بمقاليد السلطة والحكم. وهنا تحديدا تنبثق فكرته حول ''الكتلة التاريخية'' المستوعبة لكل القوى السياسية داخل الدولة، والعابرة للخلافات الأيديولوجية، لعل ذلك يساعد على تجاوز الشروخ المجتمعية والاحتراب الداخلي في بعض الأقطار "سورية، اليمن، وليبيا...".
اشتغل الجابري على مدار ثلاثة عقود، منذ عام 1980 لحظة إصدار كتاب "نحن والتراث"، مرورا بالمشروع الرباعي حول نقد العقل العربي "تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي، العقل الأخلاقي العربي"، وصولا إلى مشروع قراءة القرآن الكريم "ثلاثة مجلدات"، ضمن مشروع نسقي، أساسه "إعادة بناء الذات العربية من داخل التراث العربي، بعد تفكيك مسلماته، ونقد مطلقاته، كل ذلك قصد تجديد العلاقة به، في أفق التوظيف الخلاق له، حاضرا ومستقبلا. وقد عبر في "بنية العقل العربي" عن غاية مشروعه بوضوح، حين قال "مشروعنا هادف إذن، فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت ومتخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي. والهدف، فسح المجال للحياة، كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها".
ما أحوج العرب راهنا إلى استعادة التراث بروح نقدية، فقسط من أعطاب الذات العربية نتيجة سوء الالتباس الحاصل عند قراءة التراث، وتطبيقاته في الدولة والمجتمع "أسلمة الدولة مثالا". أدرك الراحل هذه المشكلة مبكرا، قبل تعينها واقعا وممارسة، فدعا إلى قراءة منهجية للتراث، ترفض مبدأ القطيعة "ردا على أطروحة المفكر عبدالله العروي"، وتؤسس لمنهجية "الوصل قصد الفصل"، فكما يؤكد باستمرار "لا معنى للحديث عن أي شيء لا يرتبط بمرجعية، لا يستند إلى أصل". لذا كان لزاما عليه، واعتمادا على منهجية صارمة، خوض غمار رحلة ذهاب وإياب بين الحاضر والماضي طيلة مشروعه، قصد استنطاق الوقائع والأحداث وتنزيلها ضمن سياقها الخاص والعام، من أجل بلورة أجوبة مقنعة عن أسئلة الثقافة السياسية "الحرية والمواطنة والتسامح والاختلاف..." والنموذج الاقتصادي "ثقافة الغنيمة ومحاربة الريع والفساد...".
يذكر أن استدعاء الجابري للمسألة التراثية كأفق للاشتغال المعرفي والبحث الأكاديمي لم يكن ترفا فكريا بقدر ما كان انعكاسا لوعي عميق بأسئلة الحاضر ورهانات المستقبل، فبدايات التشكل، كما يقول في سيرته الذاتية "حفريات في الذاكرة"، كانت بعد الارتجاج الكبير الذي أحدثته نكسة 1967 على أكثر من صعيد في الوطن العربي، ما دفعه إلى التفكير في الجواب الذي قطعا لن يكون قطريا بل عربيا، لأجل ذلك ناضل - كتابة وممارسة - من أجل تحرير الفكر العربي من ربقة الأيديولوجيا، فنحت مسارا خاصا في الساحة الفكرية العربية بمشروعه الفكري، متجاوزا الصدام المتنامي عند قراءة التراث، بين الأيديولوجيات الأصولية والقومية والماركسية، بتأسيس جديد يقطع مع وثوقية القراءات المحافظة "الأصولية" والحداثية "اليسارية".
ضمن هذا الأفق النقدي، انشغل الجابري بالصيغ العملية التي تسمح بتجاوز التمثلات المحافظة للتراث، نحو تمثلات أخرى أكثر واقعية، وقدرة على استثارة أسئلة الحاضر وقضاياه، من دون إغفال السياقات الانتقالية التي تمر منها المجتمعات العربية، رافضا المواقف الجذرية في التاريخ، في إشارة إلى دعاة القطيعة مع التاريخ، حيث يقول "ما أسهل الهرب إلى الأمام"، أي ما أسهل اتخاذ المواقف التي تتجنب رؤية الواقع كما هو، فتهرب إلى الأمام، وتتخلى عن التاريخ تحت اسم مسعى أو تأسيس تاريخ جديد، يقطع مع موروثه بشكل كلي، ليتبنى مكاسب الآخرين فيما يشبه عملية استيراد للتاريخ.
سعى الجابري الذي مثل صوت البادية المغربية - أمازيغي من منطقة فيكيك في الجنوب الشرقي للمغرب، في الإبداع الفلسفي والفكري في سجاله وكتاباته - إلى البحث في كيفيات تشكيل/ تأسيس عقلانية عربية جديدة، تنبني على نقد الماضي، بغية استعادته وتحريره من القراءات الوثوقية، فانشغل بالبحث عن منطقة وسطى تتقاطع عندها أسئلة الماضي والحاضر في توليفة فكرية وتاريخية قادرة على رفع التحديات التي تجابهنا.
عربيا، الراحل مفكر، صاحب مشروع تجديد التراث من خلال تفكيك خرائط العقل العربي، لكنه في المغرب حمل، بمعية الهم الفكر، هم تجديد الفكر السياسي بانخراطه في حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، فقد عد في طليعة منظري الحزب، زمن أعوام الرصاص، قبل أن يتراجع إلى الخلف، بعدما اقتنع بمحدودية الجواب النضالي عن سؤال التغيير، فاستعاض عن السياسة بالفلسفة، وفتح الباب لسجال عربي عربي أو حوار بين المغرب والمشرق، مع مفكرين عرب من طينة طرابشي وحنفي وعمارة... بحثا عن أجوبة تتجاوز حدود القطر الواحد، فتأصيل الحداثة عربيا مشروع قومي.
تحل ذكرى رحيل مفكر "لم يصمم أسطورة عن ذاته في حياته، خلافا لما يفعل بعض نجوم الشعر والفكر والأدب، لم يكن في حاجة إلى صورة المفكر، لأنه مفكر فعلا، ولا كان في حاجة إلى أن يثبت للقارئ شيئا عن ذاته، بل كتب لكي يُقرَأ، وقد كان في غنى عن الادعاء، لأنه حقيقي حقا".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون