أخبار اقتصادية- عالمية

البحر المتوسط "يقضم" مناطق ساحلية ويهدد مصير كثيرين بسبب تغير المناخ

البحر المتوسط "يقضم" مناطق ساحلية ويهدد مصير كثيرين بسبب تغير المناخ

ارتفع مستوى مياه البحر 15 سنتيمترا في القرن العشرين في منحى يسجل وتيرة متسارعة.

لجأت عائلة أماليا روميرو إلى جنوب فرنسا خلال الحرب الأهلية الإسبانية وأقامت منزلها على ساحله المتوسطي، لكن التغير المناخي جعل البحر "يقضم" المكان الذي بنت فيه حياتها.
وبحسب "الفرنسية"، تقول المرأة (94 عاما)، "إنه مصير صعب عندما نكرس كل جهودنا وحياتنا ليكون لنا سقف يؤوي عائلتنا".
وروميرو التي عملت في الصيد والزراعة، شيدت منزلها عام 1956 في فياس - بلاج الفرنسية على بعد نحو ثلاثمائة كيلومتر شمال برشلونة.
وبعد الخروج من مخيمات اللجوء وأسرى الحرب في فرنسا، نجح والداها في شراء قطعة الأرض هذه التي لم يكن قد تبقى منها سوى كروم مهملة، وبنيا فيها حياتهما الجديدة.
وفي خمسينيات القرن الـ20، أمام المنزل شبه الوحيد حينها قبالة البحر المتوسط، كان للصيادين كل المساحة اللازمة على "الشاطئ الكبير" ليشيدوا أكواخا لهم ويمارسوا هواية الصيد بهدوء، وفق أماليا التي تصف المكان بأنه "جنة ضائعة".
مذاك، "قضم البحر" جزءا كبيرا من مساحة الموقع وباتت الحديقة متاخمة للموج الذي يهب باستمرار جارفا السدود والصخور والعبارات ومعها ملايين اليوروهات من الأموال العامة المستثمرة لإعادة تكوين الشاطئ اصطناعيا.
وتعيش هذه الأرملة والأم لأربعة أبناء وحيدة، وهي تقول إنها "احتاجت إلى وقت" لاستيعاب فكرة أن البحر المتوسط آخذ في التمدد.
وتوضح "في التسعينيات، أدركنا فجأة ذلك بعد، ضربات بحر عدة، لكن الوضع كان قد أصبح خطرا جدا".
وتقع فياس - بلاج على شريط ساحلي في منطقة لانجدوك الفرنسية على مساحة نحو 180 كيلومترا، يتميز بسواحله "المنخفضة والرملية وبالتالي الشديدة الضعف في مواجهة التعرية" و"ارتفاع مستوى البحر جراء احترار المناخ"، وفق ألكسندر بران خبير الجغرافيا في جامعة بول فاليري في مونبيلييه جنوب فرنسا.
وعلى المستوى العالمي، ارتفع مستوى مياه البحر بنحو 15 سنتيمترا في القرن الـ20 في منحى يسجل وتيرة متسارعة، وفق مجموعة خبراء الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ.
وبنتيجة ذلك، سيكون أكثر من مليار شخص على غرار أماليا مقيمين في مناطق ساحلية مهددة بصورة خاصة بالفيضانات أو الظواهر المناخية القصوى بحلول 2050.
وفيما تهدد هذه الظواهر وجود بعض الجزر، خصوصا في المحيط الهادئ، فإن أوروبا ليست بمنأى عن الخطر.
وتشكل فرنسا أحد أكثر الدول تأثرا بهذه الظاهرة، مع هولندا وبلجيكا، وفق جونيري لو كوزانيه المتخصص في المخاطر الساحلية والتغير المناخي في الهيئة الفرنسية للجيولوجيا والمساهم في تقرير خبراء الأمم المتحدة لشؤون المناخ.
وتضم المناطق الساحلية الفرنسية 10 في المائة من سكان البر الفرنسي الرئيسي، أي 6.2 مليون نسمة، وفق بيانات وزارة الانتقال البيئي الفرنسي.
وتعاني ربع السواحل في البر الفرنسي الرئيسي من ظاهرة تعرية السواحل، كما أن الطوفان البحري يهدد 1.4 مليون شخص و165 ألف مبنى.
وتواجه تحف هندسية تراثية خطر غمرها بالمياه قريبا، بينها كهف كوسكير قرب مدينة مرسيليا جنوب فرنسا، مع رسومها العائدة إلى العصر الحجري القديم لأسماك وحيوانات فقمة وبطريق.
كذلك ثمة خطر على مناطق طبيعية استثنائية مثل سهل كامارج جنوب فرنسا، خزان التنوع الحيوي مع طيور النحام الوردي الشهيرة فيها.
ويفاقم احترار المناخ حدة العواصف التي تضرب الساحل ووتيرتها، وهو ما يشهد عليه الإعصار كسينتيا الذي أودى بحياة 47 شخصا على السواحل الأطلسية الفرنسية في شباط (فبراير) 2010.
مع ذلك، وكما الحال في دول كثيرة تواجه فيها السواحل تهديدات، كان إنكار خطورة الوضع هو العامل المهيمن.
ويقول ألكسندر بران إن على ساحل لانجدوك "مسؤولية تاريخية للدولة في بناء مئات آلاف المساكن والموانئ والمتاجر والبنى التحتية والتجهيزات العامة في المناطق الهشة والمنخفضة والرملية".
وهو يذكر بأن المجتمعات البشرية تاريخيا "قامت بعيدا من السواحل للحماية من البعوض والغزوات وحدة العواصف".
لكن بعد إنشاء المنتجعات الساحلية الأولى في القرن الـ19 بدفع من شركات سكك الحديد، وضعت الحكومة الفرنسية في ستينيات القرن الـ20 خلال عهد شارل ديجول خططا اقتصادية تعتمد على استثمار السواحل في المنطقة.
وقد وضعت كتل أسمنتية كبيرة قرب البحر، ما أدى إلى تغيير التيارات البحرية ومسار الرواسب، فيما تقلصت السدود التي ازداد عددها على الأنهر اعتبارا من القرن الـ19، وصول الرواسب إلى البحر.
ويرى ألكسندر بران أن الدولة الفرنسية تصدر منذ أعوام "أوامر متناقضة"، إذ تطلب أحيانا من السكان "التراجع، وهو ما لا يستقيم في مناطق تواجه قيودا متصلة بوجود برك" مياه أو تتعرض لمخاطر فيضانات بسبب قربها من أنهر تشهد ارتفاعا كبيرا في مستوى مياهها.
في المقابل، توقع الدولة "تراخيص سماح تشجع على إقامة عدد كبير من المراكز التجارية الأسمنتية قرب الشواطئ".
ولم ترد وزارة الانتقال البيئي على أسئلة وكالة فرانس برس حول الموضوع.
أما النواب المحليون فيعيشون تجاذبا بين إدراكهم حجم المخاطر من جهة، والصلة القوية للسكان مع مناطقهم من ناحية ثانية. وتقول نائبة محلية في المناطق الفرنسية المتوسطية "تحويل شعبنا إلى مهاجرين مناخيين أمر عنيف جدا: هم يتركون تاريخهم، وأي مصادرة للأملاك تترك دائما جراحا".
وتتحدث الهيئات المحلية والدول منذ أعوام عن بناء مشاريع قابلة للتكيف مع الظواهر المناخية في السواحل أو حتى إنشاء مساكن عائمة.
لكن على المستوى الأوروبي، "لا تزال عمليات التنفيذ في مرحلة تجريبية"، بحسب الأخصائي في المخاطر الساحلية لو كوزانيه.
وتشهد منطقة سيت على بعد نحو 30 كيلومترا من فياس أكبر عملية إنقاذ للساحل في المتوسط منذ 2013، بتكلفة تفوق 55 مليون يورو.
ويأمل جان لوك روميرو أحد أبناء أماليا ورئيس جمعية لسكان فياس، بأن "تأخذ الهيئات العامة في الحسبان تجربة السكان الذين يعرفون البحر" جيدا.
وتأمل أماليا البقاء في منزلها وتوريثه للأجيال المقبلة في العائلة. وتقول "حياتي كلها هنا. نحن لم نهبط من السماء، لقد جئنا بسبب الحرب".
وعندما تفلت الرياح والأمواج من عقالها، تلجأ أماليا إلى غرفتها في الجهة المطلة على البر وتغلق الأبواب مع "رفع صوت الموسيقى عاليا" بهدف "مقاومة الاضطرابات المقلقة".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من أخبار اقتصادية- عالمية