Author

نحو تحقيق العدل في العقوبات المالية .. بدلا من المساواة

|
مختص بالأسواق المالية والاقتصاد

في أماكن كثيرة حول العالم، يؤخذ بمبدأ المساواة في فرض العقوبات المالية بحق مخالفي الأنظمة أو التعليمات، والسبب في عدم الأخذ بمبدأ العدل والإنصاف في مثل هذه الحالات يعود في حقيقة الأمر إلى صعوبة تحقيق ذلك. لكن عطفا على التطورات التقنية في الأعوام القليلة الماضية، أطرح هنا تساؤلا عن مدى إمكانية توظيف تقنية الحاسب والبرمجيات في تحقيق العدل والإنصاف عند فرض العقوبات المالية.
برأيي، لدينا في المملكة فرصة سانحة لنكون من السباقين في تطبيق مبدأ العدل والإنصاف عند فرض العقوبات المالية، وذلك نتيجة النجاح الكبير الذي حققته المملكة على صعيد الخدمات الإلكترونية، وبالذات الحكومية منها، ما جعلها محل تقدير وإعجاب من قبل دول كثيرة، قريبة منا وبعيدة. لنبدأ النقاش أولا بإيضاح الخلل في مبدأ المساواة، وهو الأمر الواقع في كثير من الدول وشتى المجالات، ومن ثم ننتقل إلى مناقشة فرصة الخروج بحل تقني لمعالجة ذلك الخلل، والعمل بمبدأ العدل والإنصاف.
مسألة العدل والمساواة، من المواضيع الفكرية القديمة التي تطرق إليها الفلاسفة منذ مئات الأعوام، حيث تبين في حالات كثيرة أن المساواة ليست بالضرورة عادلة، وأن عدم المساواة في أحيان كثيرة هو العدل بعينه. لتقريب الفكرة أكثر، دعونا نأخذ مبالغ المخالفات المرورية كمثال، مع العلم أن كلامنا هنا ينطبق على أي مجال تسجل فيه مخالفات مالية بحق مخالفي الأنظمة والتعليمات، سواء كأفراد أو مؤسسات أو شركات، ويشمل ذلك مخالفات أنظمة متعلقة بوزارات وهيئات ومديريات وبلديات، وغيرها.
على سبيل المثال، مخالفة تجاوز الإشارة الحمراء من قبل أي سائق غرامتها المالية ثلاثة آلاف ريال، وفي ذلك مساواة واضحة، تبدو عادلة، وهي ليست كذلك. فأي سائق يتجاوز إشارة مرور حمراء تسجل ضده المخالفة، بغض النظر عن قدرته المالية ولا كونه طالبا أو عاملا بسيطا أو موظفا كبيرا أو أحد أكبر تجار البلد، رجلا كان أو امرأة. هذا هو مبدأ المساواة بشكل واضح ومباشر، غير أن مبدأ العدل ينظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة، فيرى الخلل في ذلك على ضوء الهدف من فرض الغرامة، وفي هذه الحالة هو لإيقاع قدر معين من الألم - العقاب المالي - بحق المخالف كي لا يعيد ارتكاب التصرف المخالف مرة أخرى. لكن بهذه الحالة من الواضح أن حدة الألم تختلف في أثر وقعها من شخص لآخر: فهل يشعر الغني بالألم المالي نفسه الذي يشعر به الفقير؟ أو ليس الهدف من الغرامة المالية ردع الجميع عن ارتكاب تلك المخالفة، غنيا كان أم فقيرا؟
ماذا لو كان مقدار المخالفة المالية يتناسب مع القدرة المالية للمخالف؟ أليس في ذلك عدلا أكثر من أسلوب المساواة الحالي؟ لا أعتقد أن هناك من يخالف مبدأ العدل في هذه الحالات، والسبب - كما ذكرت في عدم الأخذ بمبدأ العدل - يعود إلى أسباب متوارثة من جهة، وإلى صعوبة القيام بذلك من جهة أخرى. في مثال مخالفة تجاوز الإشارة الحمراء، ربما نحتاج إلى فرض غرامة بمبلغ عشرة آلاف ريال لإيقاع قدر كاف من الألم على شخص معين، بينما قد تكون غرامة 500 ريال كافية لإيقاع القدر نفسه من الألم على شخص آخر.
الحل يأتي من خلال بعض التقنيات الحديثة، وهي الذكاء الاصطناعي والتطورات الكبيرة في مجال البيانات الضخمة Big Data، التي تستخدم في تصنيف شرائح دقيقة ومتعددة داخل المجتمع، من خلال معالجة كميات كبيرة من المعلومات، الأمر الذي لم يكن من السهل القيام به في السابق. أسهمت التقنية الحديثة، كالبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي وتحسن البنى التحتية للإنترنت والأداء العالي لأجهزة الحاسب الآلي، في إتاحة الفرصة للقيام بصف البيانات وتوصيفها وإجراء البحث والتحليل الديناميكي عليها بشكل آني، واستخراج المعلومات بشكل فوري، وذلك باستخدام تقنيات معينة وأدوات فنية متطورة، عبارة عن برامج مختصة في معالجة البيانات الضخمة وتلخيصها واستخراج المعلومات منها.
الحقيقة، إننا نجحنا في المملكة في معالجة البيانات الضخمة في عدة مجالات، من أبرزها منصة حساب المواطن، التي بالمناسبة هي الآن مرشحة للفوز بجائز القمة العالمية لمجتمع المعلومات التابع للاتحاد الدولي للاتصالات في مجال تطبيقات الحكومة الإلكترونية. تهدف هذه المنصة إلى حماية الأسر السعودية من الأثر المباشر وغير المباشر من الإصلاحات الاقتصادية المختلفة، التي قد تتسبب في عبء إضافي على بعض فئات المجتمع.
النقطة الرئيسة في فكرة حساب المواطن المرتبطة بمبدأ العدل الذي نتكلم عنه هنا هي، أن البرنامج يعمل على إعادة توجيه المنافع الحكومية للفئات المستحقة بشكل يضمن توجيه الدعم للفئات المستحقة دون غيرها، وهذا هو مبدأ العدل، حيث يتم ذلك بمعالجة كميات مهولة من البيانات لتصنيف الأسر من حيث دخل الأسرة وتركيبتها العائلية، وعدد أفراد الأسرة، وغير ذلك من بيانات.
كيف يمكن تطبيق تلك التقنيات الحديثة لتحقيق العدل في مبالغ المخالفات بشتى أنواعها؟
المحصلة النهائية، أن يكون هناك تصنيف للملاءة المالية للسائق، اعتمادا على المرتب الشهري أو السيولة المتوافرة لدى الشخص، أو أي اعتبارات أخرى يتم التوصل إليها، حيث يكون في نهاية المطاف لكل سائق تصنيف مالي: مثلا التصنيف يكون من 1 إلى 10، حيث يكون الرقم 1 لشخص أوضاعه المالية متدنية جدا، والرقم 10 لشخص مقتدر بشكل كامل. وعند حدوث مخالفة ما، يتم فرض الغرامة المالية وفقا للتصنيف المالي للشخص.
الهدف مرة أخرى هو، جعل مبالغ المخالفات تتناسب مع مداخيل المخالفين من ناحية، ومن ناحية أخرى السعي نحو إيقاع قدر متساو من الألم بحق المخالفين، وليس قدرا متساويا من الغرامة. بعبارة أخرى، العدل لا يتحقق بالمساواة في مبالغ المخالفات، بل بالمساواة في قدر الألم.
وفي الختام، كي لا يكون هناك اعتراض على المقترح من الجهات المستفيدة من محصلات المخالفات، أشير إلى أن المبالغ الإجمالية المحصلة من المخالفات لن تتأثر بالضرورة عند الأخذ بمبدأ العدل، بل فقط سيختلف مبلغ المخالفة من شخص إلى آخر، وبالإمكان تصميم النظام حيث تكون المبالغ الإجمالية مساوية لما هي عليه اليوم.

إنشرها