Author

ديون العالم تتكدس

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"طوبى للشباب الذين سيرثون ديون بلادهم"
هيربرت هوفر، رئيس أمريكي راحل
سيطر الاقتراض الحكومي على المشهد العام في العام الماضي. فكل الحكومات لجأت إلى الدين من أجل تمويل خطط الإنقاذ الكبرى، لمواجهة الآثار الاقتصادية الصعبة جدا التي تركها تفشي وباء كورونا المستجد. واقتراضها تفاوت بالطبع بين دولة وأخرى، في حين لم تتعرض الحكومات المشار إليها إلى انتقادات أو هجوم سياسي محلي في بلادها، لأن كل القوى السياسية وجدت ضرورة حتمية لرفع الدين الحكومي في زمن الأزمة، التي وصفت من قبل بعض الجهات بالكارثة. ففي الولايات المتحدة مثلا اقترضت الإدارة السابقة ما يقرب من تريليون دولار لتمويل خطة إنقاذ، في حين مرر مجلس النواب الأمريكي قبل أيام حزمة دعم للاقتصاد بلغت قيمتها 1.9 تريليون دولار. وفعلت الأمر ذاته كل الحكومات الغربية، بنسب اقتراض متفاوتة بالطبع. في زمن الأزمات لا يتم السؤال عادة عن حجم الديون.
المراهنة الآن باتت محصورة في مدى سرعة ونجاعة عمليات التطعيم ضد كورونا حول العالم. فإذا بلغت الدول مستوى مناعة المجتمع من الوباء، فإنها ستتقدم بأسرع ما يمكن لإعادة فتح اقتصاداتها بصورة كاملة. فالاقتصادات المغلقة خلفت أعباء هائلة على الحكومات حول العالم، اضطرتها إلى التدخل، ليس فقط لإنقاذ المؤسسات عبر الإنفاق الطارئ، بل لرصد الأموال اللازمة لتسديد رواتب حتى شركات القطاع الخاص أيضا، فضلا عن القروض التي منحتها للأعمال الصغيرة والمتوسطة بفوائد صفرية، وضخ الأموال أيضا في القطاعات الصحية المختلفة، لمواجهة الأعداد الهائلة من المصابين بفيروس كوفيد - 19. فلم يكن غريبا أن ترتفع الديون السيادية في عديد من الدول، ولا سيما الغربية منها إلى ما فوق حجم ناتجها المحلي الإجمالي.
تأمل الحكومات حول العالم أن تتراجع وتيرة الاقتراض في العام الجاري، إذا ما تحسنت الأوضاع الصحية عموما. وهذا يرتبط بالطبع بمدى سرعة عودة الحراك الاقتصادي فيها إلى طبيعته. فالركود الذي شهدته العام الماضي كان الأعمق منذ 100 عام، باتفاق كل الجهات الدولية المختصة. والأمل في العام الجاري ينحصر في مدى سرعة الوصول إلى مرحلة التعافي، قبل الحديث عن النمو المأمول. لكن كل هذا لن يخفف من حقيقة أن الدين السيادي العالمي سيبقى مرتفعا بصورة كبيرة، ولن يعود إلى مستويات ما قبل انتشار الوباء، خصوصا في ظل حالة عدم اليقين التي تسود الاقتصاد العالمي، فضلا عن النمو المتواضع لهذا الاقتصاد في الأعوام الأخيرة من العقد الماضي.
وفق التقديرات العالمية، ومن بينها تلك الصادرة عن مؤسسة ستاندر آند بورز للتصنيف الائتماني، فإن حجم الاقتراض للعام الحالي سيصل إلى 12.6 تريليون دولار، أي أقل من 20 في المائة من مستواه الذي سجله في العام الماضي. لكن هذا الانخفاض المتوقع، لن يقلل من حجم الاقتراض السيادي الذي يصل الآن إلى أكثر من 50 في المائة من حجمه قبل تفشي كورونا. لكن هناك بارقة أمل في هذا المجال، تكمن في أن هذه الديون المتعاظمة غير المسبوقة، لن تؤثر في التصنيف الائتماني لأغلب الدول، ولا سيما المتقدمة والناشئة منها. وبحسب "ستاندر آند بورز"، فإن التصنيف الائتماني لدول العالم لم يتغير في العام الماضي (عام الأزمة) إلا بحدود 20 في المائة. وهذه نقطة مهمة جدا، تساعد الدول المعنية على حراك العودة إلى ما كانت عليه اقتصاداتها قبل الأزمة المذكورة.
الدين التجاري الواجب على الحكومات سيرتفع إلى 67.5 تريليون دولار، أو ما يمثل 75 في المائة تقريبا من حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وبلغ الدين هذا المستوى بسبب برامج الدعم الهائلة في العام الماضي. وبالطبع لا أحد يعرف يقينا الآن، إذا ما كانت الأمور ستمضي بصورة إيجابية خلال العام الحالي. إلا أن كل المؤشرات تدل على أن انفراجا اقتصاديا ربما يحدث بعد منتصف العام الجاري، وفي أسوأ الأحوال في نهاية العام المشار إليه. غير أن الديون السيادية تبقى مرتفعة بصورة كبيرة، وهذا الارتفاع يعود إلى ما قبل تفشي كورونا، حيث اعتادت الحكومات في هذا البلد أو ذاك اللجوء إلى الاقتراض كي تنفذ برامجها، ولحصد ما أمكن له من شعبية على الصعيد المحلي.
في نهاية عام 2019 بلغ حجم الدين العالمي 253 تريليون دولار، أو ما يمثل 322 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب معهد التمويل الدولي. وهذه الديون هائلة بالفعل، حتى إن نصفها تقريبا مستحق على الأسواق المتقدمة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وأوروبا. واللافت أن نسبة الدين مقابل الناتج المحلي الإجمالي في الدول المذكورة بلغ 383 في المائة، ومع تكدس الديون بسبب أزمة الوباء، فإن العالم سيظل يعيش أزمة دين لن تنتهي بالطبع، وستبقى مستمرة لأجيال مقبلة. لكن النقطة الأهم في كل هذا تبقى محصورة في القدرة على السيطرة على هذه الديون وآثارها وتبعاتها. والسيطرة المطلوبة ملتصقة بسرعة عودة الاقتصاد العالمي إلى أدائه الذي سبق تفشي كورونا، والدخول في مرحلة نمو، حتى لو بمعدلات منخفضة.
إنشرها