Author

المضاربات العقارية مجددا .. المخاطر والآثار

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
في البداية، أؤكد أن ما سيقرأه القارئ الكريم فيما سيأتي من المقال من بعض الشواهد، كإثباتات على حدة المضاربات العقارية التي وصل إليها عديد من تعاملات المضاربين في بعض أحياء المدن الرئيسة، أنها ليست من وحي الخيال، بل هي حقائق دامغة أثبتتها البيانات الفعلية المستقاة من موقع وزارة العدل، وسأشير عند ذكرها إلى المصدر تحديدا، وكيف للقارئ الكريم أن يرجع إليها ليتأكد بنفسه!
أظهرت البيانات الفعلية حول تعاملات ونشاط السوق العقارية المحلية، زخما متصاعدا للمضاربات المحمومة على الأراضي السكنية تحديدا في الأطراف النائية من المدن الرئيسة، سجلت نقطة انطلاقها اللافتة مع مطلع 2019، واستمرت في التصاعد الشديد حتى الفترة الراهنة، وعلى الرغم من هدوئها بعض الشيء خلال الشهرين نيسان (أبريل) – أيار (مايو) من العام الماضي (فترة الحظر بسبب كوفيد - 19)، إلا أنها سرعان ما اندفعت بسرعة أكبر فيما بعد تلك الفترة، وازدادت سرعتها بصورة أكبر مع مطلع الربع الرابع من العام الماضي، ولا تزال تتسارع سطوتها في تلك المناطق النائية أسبوعا بعد أسبوع حتى الفترة الراهنة.
في هذا الشأن، استحوذت المضاربات على الأراضي الواقعة في "مخطط الخير" شمال مدينة الرياض المقدمة لعامين على التوالي، ووصلت نسبة استحواذها على 11.7 في المائة من إجمالي قيمة الصفقات السكنية في مدينة الرياض حتى نهاية الأسبوع الماضي، وهي التي كانت لا تتجاوز نسبة 0.8 في المائة من إجمالي قيمة الصفقات السكنية للمدينة قبل أقل من أربعة أعوام! ليس هذا فحسب، بل إن المخطط بصفته "حيّا"، أصبح "الحي" الأعلى قيمة من حيث الصفقات على مستوى جميع أحياء مدن المملكة خلال 2020 - 2021، مقارنة بمركزه الـ175 بين أحياء المدن قبل عدة أعوام قليلة، ليصل إجمالي قيمة الصفقات العقارية التي تم تنفيذها على الأراضي السكنية خلال عامين إلى 5.5 مليار ريال حتى نهاية الأسبوع الماضي، ما أدى إلى تضخم متوسط أسعار الأراضي السكنية في ذلك المخطط خلال 2019 - 2021 فاق 351 في المائة، علما بأن عديدا من قطع الأراضي في المخطط قفز أسعاره بنسب غير مسبوقة وصلت إلى 947 في المائة خلال أقل من 21 شهرا. وهنا يأتي بيت القصيد، كدليل على شراسة تلك المضاربات المحمومة، فحسبما أظهر موقع وزارة العدل عبر نافذة (تفاصيل الصفقات المنفذة في كل حي)، كأمثلة حية على الوتيرة العالية لتلك المضاربات، توثيقه تنفيذ (ثماني) عمليات شراء وبيع لقطعة أرض واحدة خلال ثلاثة أشهر فقط، ارتفع سعرها خلال تلك الفترة الوجيزة، فاق 61 في المائة، وقطعة أرض أخرى تم تنفيذ (سبع) عمليات شراء وبيع عليها خلال عام واحد فقط، انتهى سعرها إلى ارتفاعه خلال عام 147 في المائة، كما وثقت تلك البيانات الفعلية (أربع) حالات شراء وبيع لقطعة أرض واحدة خلال أقل من شهر واحد فقط، وسجل سعرها ارتفاعا وصل إلى 28.5 في المائة خلال تلك الفترة القصيرة جدا، وهذه ليست إلا أمثلة تكاد لا تذكر وسط ما يجري على أرض الواقع، ولمن أراد الاطلاع أكثر والتأكد مما تقدم ذكره، ليس عليه سوى الدخول على موقع وزارة العدل، واختيار (مؤشرات عقارية في الأحياء – شهري)، ومن ثم الدخول على (مؤشر تفاصيل الصفقات المنفذة في الأحياء خلال شهر)، ثم اختيار مدينة الرياض (الخير).
قبل الحديث عن مخاطر وآثار تلك المضاربات، لا بد من الإشارة إلى أن المخطط أعلاه يكاد يخلو من أدنى قدر من الخدمات المتوافرة عادة في الأحياء الأقرب منه إلى المدينة، والأمر الآخر لمن قد يظن أن حدة المضاربات حدثت نتيجة لتوقف عمليات نقل الملكية وتصاريح البناء في شمال الرياض، أنها قد بدأت قبل ذلك التوقف بعام على أقل تقدير، وهذا لمزيد من الإيضاح.
آتي الآن للحديث عن أبرز المخاطر والآثار المحتملة، والتأكيد على أن نشاطات مضاربية بهذه الحدة المتصاعدة، لا تتم داخل غرف مغلقة لا يعلم بها أحد، بل إن لها ضجيجا كبيرا يتردد صداه الواسع في مختلف أرجاء السوق العقارية المحلية، الذي سيكون له تأثير قوي في نشاط السوق وفي مستويات الأسعار، ويكفي هنا تداول ونشر أخبار مستويات الأسعار السوقية التي وصلت إليها الأراضي في ذلك المخطط النائي، والخالي من الخدمات، لتتحدد مستويات سعرية أعلى منه في الأحياء الأقرب، وذات الحظ الأكبر من الخدمات! وكأنك تتحدث عن (مؤشر استرشادي) فرض نفسه على الجميع، وليس لأي باحث عن تملك أرض للاستخدام والسكن أي فرصة تذكر ليقاومه أو يتجاوزه!
هنا تحديدا مصدر الخلل الرئيس، الذي انعكست وستنعكس باستمرار مخاطره وآثاره العالية جدا على السوق العقارية، والمتمثل في صناعة تلك المضاربات المحمومة وعمليات التدوير الكبيرة للأراضي (لمؤشر استرشادي) هو في الأصل (مضلل)، وأنه في الأصل تشكل من مضاربات محمومة لا تمت بأي صلة إلى معطيات السوق والاقتصاد الكلي، وفي الوقت ذاته تسبب ذلك (المؤشر الاسترشادي المضلل) في تغييب تام للمؤشرات الاقتصادية والمالية التقليدية للاقتصاد الكلي، التي بناء عليها تتحدد أغلبية السياسات الكلية وقرارات وتوجهات القطاع الخاص في أي نشاط اقتصادي وفي أي سوق، ومنها بطبيعة الحال السوق العقارية! يقضي الواقع القائم بناء على ما وصل إليه ذلك (المؤشر الاسترشادي المضلل) من قوة يحتج بها، خاصة لدى ملاك الأراضي ومن ينوي البيع، أنك مهما أوتيت من حجة بالغة، ومهما استشهدت بالمؤشرات الاقتصادية والمالية الحقيقية، فإن النتيجة النهائية لمفاوضاتك مآلها إلى الفشل المحتوم!
إننا والحال تلك، نقف أمام تعميق واسع النطاق لتشوهات السوق، التي تأكد أن مخاطرها وآثارها العكسية ستمتد إلى الاقتصاد الكلي، ما يقتضي بدوره سرعة مواجهة تلك التعاملات المضاربية، واتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة والكافية للقضاء عليها، التي تكفل حماية أكبر لمقدرات الاقتصاد الوطني قبل أي اعتبار آخر، والحد من أشكال التضخم، وتآكل القيمة الحقيقية للدخل، إضافة إلى توفير الاستقرار اللازم للقطاع الخاص، وحماية المستويات المعيشية لأفراد المجتمع وضمان كفايتها، وهو الأمر المنوطة به وزارة الاقتصاد والتخطيط لتتولى العمل بصورة متكاملة مع الأجهزة الحكومية ذات العلاقة، ووضع التدابير الملائمة والكافية، واقتراح الإجراءات اللازمة في مواجهة هذه المخاطر، والقضاء عليها مبكرا.
إنشرها