Author

خسائر القطاع المصرفي العالمي

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"نواجه ظروفا خطرة، والبنك المركزي الأوروبي لن يفلس، حتى لو تكبد خسائر"
كريستين لاجارد، رئيس البنك المركزي الأوروبي
هناك تفاوت كبير في تقديرات مؤسسات التصنيف العالمية للخسائر التي منيت بها البنوك حول العالم نتيجة تفشي وباء كورونا المستجد. لكن بلا شك، وصلت هذه الخسائر إلى مستويات مرتفعة، وتميز القطاع المصرفي الدولي عموما بالقوة خلال الأزمة التي لا تزال مستمرة، رغم الإجراءات المختلفة التي اتخذت للحد من تفشي الفيروس القاتل، بما في ذلك التحرك المتسارع على صعيد توزيع اللقاحات ورفع وتيرة التطعيم قدر المستطاع. والقطاع المصرفي يمثل مؤشرا حاسما في الأزمات. فكلما تعرض للخطر تعمقت هذه الأزمات، ورفعت من حدة الضربات الموجعة لها. لكن في الأزمة الراهنة، لم تخرج المصارف الرئيسة من السوق، كما حدث لآلاف الشركات في قطاعات مختلفة، حيث اضطرت للانسحاب من ميادينها.
في منتصف العام الماضي، وفي عز تفشي الجائحة، توقعت مؤسسة "ستاندر آند بورز جوبال" أن تصل تكاليف الأزمة على القطاع المصرفي عالميا إلى 2.1 تريليون دولار، بنهاية العام الماضي. وكان توقعها في مجال خسائر القروض في حدود 1.3 تريليون دولار عام 2020، أي ما يزيد على مثلي الخسائر في عام 2019. لكن الأمر تغير مع بداية العام الجاري، خصوصا بعد أن أثبتت المصارف القدرة على المقاومة "حتى الآن على الأقل"، نتيجة ما تتمتع به من قوة. فمؤسسة التصنيف نفسها عدلت توقعاتها لخسائر المصارف إلى 1.8 تريليون دولار لعامي 2020 و2021، أي أقل 15 في المائة من تقديراتها السابقة، خصوصا في ظهور النتائج السنوية لهذه المصارف في الشهر الماضي.
لكن الأمور لا تزال صعبة، والبعض يرى أنها ربما ستكون خطيرة في العام الجاري، لأسباب عديدة، في مقدمتها، استمرار أزمة كورونا على الأقل في الربع الأول من هذا العام، حتى في ظل عمليات التطعيم التي تجري حول العالم. فقد بات واضحا أن الأوضاع الاقتصادية والحياتية العامة، لن تعود إلى سابق عهدها قبل إتمام حملات التطعيم، ولا سيما بعد أن فشل تقريبا كل إجراءات الإغلاق السابقة والحالية التي اتخذتها الحكومة حول العالم، للسيطرة على هذا الوباء. من هنا، فإن الأشهر المقبلة ستشهد إما انتعاشا مأمولا في كل القطاعات، ومن بينها القطاع المصرفي، أو بقاء الحال على ما هو عليه حتى تتضح الصورة. مع الإشارة إلى أن الانتعاش سيكون متفاوتا من حيث السرعة بين دولة وأخرى، ومنطقة وأخرى.
واللافت، أن التعديلات التي أدخلت على توقعات خسائر المصارف وخفضتها، جاءت في أعقاب إعلان بيانات القطاع المصرفي في أمريكا الشمالية والصين، وبدرجة أقل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ عموما. وهذه المناطق مرشحة لأن تعود إلى النمو بصورة جيدة في غضون العام الجاري، بما فيها الولايات المتحدة، رغم كل الضغوط الاقتصادية التي يعيشها هذا البلد. وتتفق مؤسسات تصنيف عديدة، على أن الخسائر الائتمانية للمصارف في بقية دول العالم، سترتفع عموما، على الأقل في العام الحالي. والنقطة الأهم هنا، تبقى منحصرة في مدى قدرة المصارف الكبرى على استيعاب هذه الخسائر، وهذا يرتبط كما هو معروف بمستوى ملاءتها المالية، وعائدات التشغيل التي تمثل عوائد محورية لها في كل الأوقات. والمؤشرات كلها تدل على استمرار الخسائر الائتمانية حتى في العام المقبل، لكن بصورة أقل مما سجلته في العام الماضي.
لا شك أن هذه المرحلة تمثل واحدا من أكبر الاختبارات للمصارف، خصوصا الكبرى منها. فقد أسهمت هذه المؤسسات المالية في دعم حراك الاقتصادات في بلدانها، سواء عبر توفير القروض الميسرة، أو حتى تلك التي منحتها لشرائح من الناس بفوائد قريبة من الصفر. وتم ذلك بالطبع بتشجيع من الحكومات التي تدخلت في سند ما أمكن لها من المؤسسات من كل الأحجام، بما في ذلك توفير الرواتب للموظفين والعاملين حتى 100 في المائة في بعض البلدان. والمصارف حول العالم، باتت في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008، أكثر ملاءة وقوة نتيجة مئات التشريعات التي اتخذت من قبل الحكومات، لحماية الأموال المودعة، بعد أن فرضت عليها سلسلة من العقوبات، بسبب دورها في انفجار الأزمة المشار إليها.
في كل الأحوال لن تكون الخسائر الائتمانية قليلة من جراء ضغوط الأزمة الاقتصادية الناجمة عن كورونا، إلا أنها هذه المرة ستكون تحت السيطرة، رغم أن هذه الخسائر ربما تستمر بمستويات مختلفة حتى عام 2024. فالتحديات كبيرة في العامين المقبلين على الأقل، خصوصا إذا ما كان التعافي الاقتصادي دون المستوى المأمول، ولا سيما في ظل ركود هو الأعمق منذ 100 عام، أصاب الاقتصاد العالمي. المشكلة هنا لا ترتبط بمستوى قدرة المصارف على الصمود، فهي قادرة على ذلك، وفق كل المعطيات الموجودة على الساحة، لكنها تتعلق بطول المدة التي يحتاج إليها العالم للخروج من براثن الانكماش والركود، ودخول مرحلة العودة للتعافي والنمو.
إنشرها