Author

النفط برؤية استباقية .. تمرس وتنويع 

|

 
يمكن القول بثقة كبيرة إن حالة الاقتصاد العالمية الراهنة لم تكن أبدا نتيجة التوقعات والتنبؤات الصحيحة له، بل لو كانت تلك التنبؤات التي استمر كثير من المحللين والمنصات الإخبارية إطلاقها بين فينة وأخرى صحيحة، لكان العالم قد انتهى منذ اندلاع الحرب الباردة. ولو كانت التكهنات صحيحة تماما ما كانت الصين اليوم تقود العالم بهذه القوة، ولما كانت أقرب التحليلات الاقتصادية تشير إلى تعافي عدد من اقتصادات دول شرق آسيا، بينما لم تزل الدول الأوروبية خصوصا تعاني الموجة الثانية لانتشار الجائحة.

وعلى هذا، فإن الحكومات القوية، التي تمتلك الكفاءات والمهارات الاقتصادية الواثقة، وتستند في تحليلاتها إلى مستقبل الاقتصاد الكلي والعالمي والسياسي، تعرف جيدا كيف تتخذ قراراتها بحرص يخدم مصالحها دون تهور أو تجاهل للمتغيرات الاقتصادية والمستجدات، وفي هذا الشأن فما فتئت التقارير الاقتصادية والأبحاث، التي تنشرها المراكز البحثة، تحذر من مغبة انتهاء حقبة النفط، وتبشر ببزوغ فجر الطاقة النظيفة. وقد اشتدت حدة هذه التقارير والدراسات ولقيت رواجا واسعا بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، التي صحبتها ارتفاعات قياسية وتاريخية لأسعار النفط تجاوزت حينها 100 دولار، قبل أن تعود إلى مستويات 60 دولارا، وهو سعر التوازن الذي استطاعت السعودية بحكمتها أن تقود العالم نحوه، من خلال إعادة حوكمة قطاع منتجي النفط، وترتيبات "أوبك +".

وشهدت هذه الترتيبات تحديا هائلا مع بداية أزمة فيروس كوفيد - 19، حيث اندلعت المنافسة الحادة جدا، التي قادت الأسعار إلى مستويات أقل من 20 دولارا، وكانت كافية لإطلاق أسوأ التنبؤات الاقتصادية على الإطلاق، بل بدأ المحللون الاقتصاديون يروجون لفكرة انهيار "أوبك"، وذلك قبل أن تفاجئهم المملكة بقوة مرونتها الاقتصادية والسياسية، وقدرتها على حل مشكلة الأسعار واستعادة التوازن في الأسواق، وأن تقدم حلولا أقنعت دولا أخرى بالانضمام إلى مجموعة "أوبك +"، لتصبح السوق النفطية أكبر وأكثر تنظيما مع الالتزام واسع النطاق حتى بالتخفيضات الطوعية، وذلك على خلاف التنبؤات. وبذلك، عادت الأسعار إلى المستويات المريحة عند 60 دولارا، وهذا يقدم دليلا لا يمكن دحضه على دقة قراءة المملكة لمتغيرات مشهد الطاقة العالمي وقدرتها على التدخل في الوقت المناسب لتصحيح الأوضاع.

والمملكة تدرك جيدا التوجهات العالمية في الطاقة، والرغبة الجادة في تقليل استخدام الطاقة الأحفورية والتحول إلى الطاقة النظيفة والمتجددة، وقد استشرفت "رؤية 2030" التطورات كافة في مشهد الطاقة العالمي والتقلبات التي هي من طبيعة هذه السوق، خاصة أنها شديدة التأثر بالأجواء السياسية والتقلبات الجيو اقتصادية، ولتجنيب الاقتصاد مثل تلك الصدمات التي شهدها الاقتصاد السعودي خلال عقود بسبب هذه التقلبات.

ولذلك، تم بناء رؤية المملكة 2030 على أساس تنويع الاقتصاد السعودي، وذلك بتحفيز القطاعات غير المرتبطة بالنفط، وتطوير موارد المالية العامة غير النفطية، وحققت هذا العام 2020 قفزة قياسية بنحو 358 مليار ريال، تعادل نحو 46.5 في المائة من إجمالي إيرادات الدولة البالغة 770 مليار ريال، في حين بلغت الإيرادات النفطية نحو 412 مليار ريال تعادل 53.5 في المائة من إجمالي الإيرادات. كما تم تحفيز قطاعات الترفيه والسياحة، وأطلق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عددا كبيرا من المشاريع، وهي في جوهرها تحقق استراتيجية خاصة لتقليل الاعتماد على النفط وزيادة كفاءة الطاقة وتنويع مصادر الدخل، وهو ما يجعلها تسير بخطى ثابتة وواثقة في التعامل مع أي متغيرات في الطلب على الوقود الأحفوري.

لكن يجب ألا يأخذنا التفاؤل بعيدا في مسألة تطور الطاقة النظيفة واستخداماتها بما يضر بقدرات العالم والاستثمارات العالمية في إنتاج النفط، حيث إن حضارة العالم القائمة لم تزل تقوم عليه، وأي خلل في الإنتاج قد يقود إلى كارثة، فأفضل التنبؤات بنمو الطلب على الطاقة النظيفة لا يزال يرى أن الوقود الأحفوري هو المصدر الرئيس لنحو 85 في المائة من إنتاج الطاقة في العالم، كما أن التحولات نحو استخدام الطاقة النظيفة لا تزال تتركز في قطاع إنتاج الكهرباء. كما أن المنتجات الصناعية ذات الاستخدام الشعبي الكثيف، التي تعتمد الطاقة النظيفة، لا تزال أقل مما يروج له بكثير، وهذا يؤكد أنه مهما انخفض الطلب على النفط، إلا أن العالم سيواصل اعتماده على هذه الطاقة، لاحتياجه الكبير إليها خلال العقود المقبلة، حتى في ظل التنبؤات التي تتحدث بخلاف ذلك، وستواصل المملكة بسياستها المتزنة كلاعب رئيس في أسواق الطاقة بما يحافظ على استقرار الأسواق واتزان العلاقة بين المنتجين من داخل وخارج "أوبك" والمستهلكين.

وهنا لا نغفل جهود المملكة في دعم سياسات إنتاج الطاقة النظيفة، واهتمامها بشكل كبير بقضايا البيئة، فقد تم إطلاق استراتيجية وطنية لتعزيز حماية البيئة والتنوع الأحيائي واستدامة الموارد الطبيعية، وإنشاء صندوق خاص بالبيئة، فالمملكة مع تطوير المنتجات النظيفة، وشهدت اجتماعات قمة العشرين، التي انعقدت في المملكة، تقديم السعودية مقترح الاقتصاد الدائري للكربون، حيث إن هذا المقترح يقابل احتياجات الدول الأقل نموا والأشد فقرا لعدم قدرتها فعليا على مقابلة متطلبات إنتاج الطاقة النظيفة ونفقاتها المستمرة حتى بعد الإنتاج. كما تعمل المملكة على تطوير استخدام طاقة الرياح، والطاقة الشمسية، لتصبح المولد الأساس لـ50 في المائة من الطاقة المستخدمة لإنتاج الكهرباء بحلول عام 2030، خاصة أن هذا المقترح يحقق للاقتصاد مزايا عدة، من بينها خفض الاستهلاك المحلي للنفط وزيادة دعم الإيرادات العامة، فالتحسن في إنتاج الطاقة النظيفة يحقق للاقتصاد السعودي مكاسب كبيرة، من خلال زيادة حصة الصادرات، ما يحافظ على التوازن الاقتصادي. وقد أشار تقرير لمركز أبحاث كربون تراكر، ونشرته شبكة "بي بي سي"، إلى أن التحول إلى الطاقة الخضراء سيكلف الدول النفطية، ومنها السعودية، 13 تريليون دولار بحلول عام 2040، لكن التقرير المتناقض تجاهل، ولم يأخذ في الحسبان، تأثير تحسن استخدام الطاقة النظيفة في المملكة في الاستهلاك المحلي، ما يرفع القدرة على التصدير. فالمملكة اليوم تستهلك محليا حوالي ربع ما تنتجه من النفط، فالتحسن في الطاقة النظيفة سيعزز من حجم الصادرات، وهو الأمر الذي يحقق توازنا واستدامة في الإيرادات العامة.

إنشرها