Author

الانكماش في الغرب أعمق

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"خطة التعافي لاستعادة الاقتصاد الأوروبي، تعكس القيم الأوروبية"
إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا
في الربع الأخير من العام الماضي، كثر الحديث في الدول الغربية المتقدمة، عن قرب خروجها من أزماتها الاقتصادية الخطيرة الناجمة عن تفشي فيروس كورونا المستجد، لكن ذلك لم يكن واقعيا تماما، ولا سيما أن هذا التفاؤل جاء على خلفية تحسن طفيف في أداء الاقتصاد العالمي ككل، يعود أساسا إلى تراجع ضربات الفيروس القاتل في فصل الصيف الماضي. بمعنى آخر، كانت حقيقة التفاؤل المشار إليه مجرد تمنيات لا أكثر. واعترف المسؤولون الغربيون لاحقا بذلك، لأن الأضرار الاقتصادية توسعت، في حين لم يسيطر العالم بعد على الوباء، رغم ظهور لقاحات ذات فاعلية ضد كورونا، اعتمدها فورا أغلب الدول. الخروج من الأزمات الاقتصادية لا يزال بعيدا، أو على الأقل يبقى غير واضح، ولا يمكن البناء عليه في هذه الفترة.
الحالة السائدة على الساحة الدولية ليست أقل من انكماش متصاعد في أغلب الدول، خلف ركودا اتفق المسؤولون المعنيون على أنه الأعمق منذ أكثر من 80 عاما. وهذا الركود متفاوت بين دولة وأخرى، لكن الميزة الأهم له، هي أنه أعلى في الدول المتقدمة منه في الدول النامية، الأمر الذي وضع الحديث عن التعافي جانبا لفترة لا أحد يعلم حتى الآن مدتها. فالمرحلة الراهنة تختص بمحاولات إنهاء الركود الاقتصادي بأسرع وقت ممكن، للدخول في مرحلة التعافي المأمولة. فالنمو في الدول المتقدمة سيكون أدنى مقارنة بالدول النامية، وهو لا يزال بعيدا بالفعل، مع استفحال الأزمة الاقتصادية عالميا، ومع ارتفاع حجم الخسائر في كل القطاعات، بما في ذلك الزيادة التاريخية في معدلات البطالة التي لم تتوقف منذ انفجار الوباء.
الذي يجعل اقتصادات الدول المتقدمة حاليا بعيدا عن الانهيار، ليس إلا حزم الإنقاذ الضخمة التي اعتمدتها. ففي الولايات المتحدة بلغت ثلاثة تريليونات دولار، في حين أن الرئيس جو بايدن، أقر حزمة جديدة تصل قيمتها إلى 1.9 تريليون دولار، ووعد في غضون فترة قصيرة جدا، أن يقدم خطة جديدة توجه للاستثمارات المحلية والخارجية من أجل تنشيط الحراك الاقتصادي. والأمر نفسه على ساحة الاتحاد الأوروبي، الذي سبق وأقر خطة إنقاذ بلغت خمسة تريليونات يورو. ويبدو واضحا أن الحكومات الغربية متمسكة بخطط الإنقاذ الواحدة تلو الأخرى، طالما أن الوضع يتطلب ذلك، ما أضاف أعباء كبيرة على كاهلها من ناحية ارتفاع مستويات الديون السيادية، التي بلغت في بعض الدول أكثر من نواتجها المحلية الإجمالية.
ولا توجد حكومة على الساحة الغربية يمكنها أن تضع حاليا موازنة سنوية عامة لبلادها، لأن الأوضاع الاقتصادية متغيرة بصورة لا يمكن تحديد مسارها. وهذا أمر طبيعي، في ظل الإغلاقات الكاملة التي اعتمدها بعض الدول المتقدمة لمحاصرة ما أمكن من فيروس كورونا، في حين أن دولا أخرى اعتمدت الإغلاقات الجزئية. وهذا التوقف أو شبه التوقف أضاف مزيدا من الضغوط على هذه الحكومات، عن طريق ارتفاع حجم الانكماش الاقتصادي فيها. ففي بلد، مثل بريطانيا، بلغ الانكماش أكثر من 10 في المائة، وفي فرنسا، وصل إلى 8.5 في المائة. صحيح أنه في الولايات المتحدة كان أقل، لكن الصحيح أيضا أن الأضرار الاقتصادية على الساحة الأمريكية ضخمة جدا، مع ميزة إيجابية واحدة عن غيرها من الساحة الغربية، وهي أن توقعات العودة إلى النمو فيها ستكون أسرع، أي إن هذا النمو قد يظهر خلال العام الجاري.
وتفاوت سرعة العودة إلى النمو، يصاحبه تفاوت مستويات هذا النمو بين دولة وأخرى. أي إن التعافي الحقيقي سيكون مختلف السرعات. لكن المسألة الأهم الآن، تبقى محصورة في كيفية مواصلة الإمدادات للاقتصادات الغربية بحزم الدعم الحكومية. فالانكماش الذي تعيش فيه الدول الغربية هو الأسوأ منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكلما طالت مدة بقائه على الساحة، زادت العقبات أمام الحراك الهادف للخلاص منه. والمشكلة الأكبر في هذا الانكماش، أنه نتج عن توقف كل القطاعات المنتجة تقريبا، أو تراجع نشاطها بصورة كبيرة، وهذا ما يبرر مثلا انضمام أكثر من مليون أمريكي إلى قوائم العاطلين عن العمل في شهر واحد فقط، فضلا عن ارتفاع البطالة إلى مستويات تاريخية أخرى في دول الاتحاد الأوروبي.
المشكلات التي واجهت بعض الدول النامية ليست أقل حدة من تلك التي تواجه الدول الغربية المتقدمة، لكن مرونة الاقتصادات النامية، وتمتعها أصلا بمستويات نمو مرتفعة قبل تفشي كورونا، وفرت لها أدوات أكثر قوة من الأدوات الغربية على الأقل في مرحلة التعافي. العالم يأمل أن تثمر الجهود الهائلة المبذولة حاليا على صعيد اللقاحات ضد الفيروس المرعب، والأهم أن تأتي الثمار بأسرع وقت ممكن. فقد بات مصير الاقتصاد العالمي مرتبطا مباشرة بهذه اللقاحات، وسرعة توزيعها، وجودة إعطائها لأكبر شريحة بشرية على الأرض. وإلى أن يتم ذلك، سيواصل الاقتصاد العالمي معاناته واضطراباته، مع التفاوتات الواضحة بين دولة وأخرى على صعيد الخلاص من الانكماش والانتقال إلى مرحلة التعافي المنشودة.
.
إنشرها