Author

الاقتصاد والرأسمالية .. تحولات عميقة 

|

بدأ العالم يناقش مرحلة ما بعد كورونا، ويبدو أن هناك كثيرا من الاستحقاقات والتحولات العميقة جدا، فقد تغيرت خريطة العالم الاقتصادية بسبب تداعيات هذه الجائحة وتضرر كثير من الدول من الإغلاقات الإجبارية وتوقفت كثير من القطاعات التجارية عن نشاطاتها المعتادة، ما أثر في عمليات النمو والدخل وتضخمت أرقام فقد الوظائف والبطالة، ولكن لا شيء واضحا تماما.

لعل أبرز الظواهر الناشئة هي بروز دول آسيا وهيمنتها على القرار الاقتصادي العالمي ذلك أنها الوحيدة حتى الآن التي تبدو أنها خرجت أقوى بعد جائحة كوفيد - 19 خاصة بعد أن ضرب الفيروس معظم دول أوروبا اقتصاديا بقيادة دول الاتحاد الأوروبي. كما تعرض الاقتصاد الأمريكي لضربة عنيفة تأثرت به كبرى الشركات ولذا فإن هذا نوع من الاقتصاد الذي يقود المفاهيم الغربية الرأسمالية يواجه أزمات كبيرة ويحتاج إلى وقت للعودة إلى مؤشراته الطبيعية في ظل قيادة جديدة للبيت الأبيض تبحث عن حلول مناسبة للنهوض من هذه الكبوة الحادة بعد أن كانت النظرية الرأسمالية تقود الاقتصاد العالمي وتسيطر عليه.

هذه الهيمنة ظهرت جزئيا في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي يحمل عنوان "عام حاسم لإعادة بناء الثقة، من أجل تقييم موازين قوى الاقتصاد العالمي في ظل استمرار آثار الجائحة في الاقتصادات. وتشير دراسات من مراكز عالمية إلى أن مركز الجاذبية الاقتصادية للعالم ينتقل نحو آسيا منذ 2002 وأن دور "أزمة كوفيد - 19 كان يكمن في تسريع ذلك الانتقال. ورأت الدراسات أنه "بحلول 2030، سيكون مركز الجاذبية الاقتصادية للعالم في محيط التقاء الصين والهند وباكستان، وبالتالي فإن المنتدى العالمي لهذا العام يؤكد ذلك أيضا من حيث مشاركة الرئيس الصيني شي جين بينج الذي سيلقي خطابا في افتتاح الفعالية العالمية.

كما تشير الأنباء إلى أن المنتدى العالمي "دافوس" سينتقل فعليا إلى سنغافورة، بعيدا عن أوروبا والسبب المعلن هو كورونا لكن يبدو أن الأسباب أكثر من ذلك، فجدول الأعمال يتضمن عناوين ترسم صورة مختلفة للعالم بدءا من ورش العمل التي تناقش الرأسمالية من خلال أصحاب المصالح، وإذا كان هؤلاء يتوزعون بين فئات مختلفة تتجاوز المساهمين والدائنين لتدخل فئات أخرى ومن بينها الحكومات، لذا فإن الرأسمالية لم تعد مفهوما يرتبط برأس المال ومصلحة المانحين للأموال بل هناك استحقاقات كثيرة والرأسمالية ستصبح شمولية.

وهنا تظهر وتطرح أسئلة مهمة حول الدور الاجتماعي للقطاع الخاص وأهميته في معالجة معدلات البطالة والمناخ والبيئة عموما. ولقد أثبتت جائحة كورونا أن التساهل مع القطاع الخاص في هذه القضايا لم يعد خيارا مناسبا، وأن مفهوم تعظيم الأرباح الذي هيمن على الاقتصاد العالمي قرونا لم يعد كافيا لضمان الاستدامة والعلاقات الاجتماعية والإنسانية في شكلها الحديث. ومن هنا يرى المنتدى العالمي ضرورة التفكير من جديد وعلى وجه الخصوص، فيما يحققه مفهوم أصحاب المصلحة من تحولات أصبحت ضرورية إذا كنا نريد معالجة الاختلالات الحالية فمفهوم رأسمالية أصحاب المصلحة يعزز مفهوم المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص والشركات المساهمة خصوصا، حيث تأخذ الشركة في الحسبان مصالح شريحة واسعة من المجتمع ولا تنحصر في حقوق الملاك والعملاء والموردين ولكن أيضا المجتمع الأوسع المحيط والبيئة والمجتمع الإنساني ككل.

فقد أثبتت الجائحة أن إهمال مؤسسة صحية في الشرق قد يقتل الناس في الغرب، وبهذا يصبح معنى رأس المال أوسع ليشمل رأس المال الاجتماعي أيضا. وهذا ما تؤكده بكل وضوح ورشة العمل الثانية التي بعنوان "الدفع نحو عقد اجتماعي جديد"، وتبدو التفاصيل هنا أكثر دقة وأن النموذج الصيني يؤثر في الأفكار، كما أن الجائحة وما أوجدته من أزمات اجتماعية وتحولات عميقة تقودها الآلة والذكاء الاصطناعي والثورات والتظاهرات التي تعم العالم تتطلب من الجميع مناقشة جادة لكل الوضع القائم والتصرفات القانونية التي تنشأ عنه، وهذا يقود العالم إلى مناقشة العقد الاجتماعي نفسه، هذه المرة الأولى التي يصل فيها النقاش إلى التشكيك في أصالة الحالة الاجتماعية الراهنة وقدرتها على استدامة العلاقات الإنسانية والدول والمؤسسات.

فنموذج ما بعد الحرب والأسواق الحرة وشكل ودور الحكومات لم يعد مستداما لا من الناحية البيئية ولا الاجتماعية، وهناك دعوات لإعادة النظر في دور الرأسمالية ونظرياتها في ضوء جائحة فاقمت انعدام المساواة.

إنشرها