Author

ملامح طفرة مقبلة من نوع مختلف

|
كبير الاقتصاديين في وزارة المالية سابقا
في حديث ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في المنتدى الاقتصادي العالمي، الأسبوع الماضي، أخبر عن فرص استثمارية تصل إلى ستة تريليونات دولار خلال الأعوام العشرة المقبلة. ونصف المبلغ تقريبا لمشاريع استثمارية جديدة. هذه الحزمة جزء من الرؤية الهادفة إلى تحويل الاقتصاد السعودي إلى قوة اقتصادية معتبرة غير معتمدة على صادرات النفط. معظم تمويلات الاستثمار من صندوق الاستثمارات العامة، والقطاع الخاص المحلي، والبقية من استثمارات خارجية خليجية وغير خليجية. وفي هذا يخطط لبناء مشاريع ضخمة تقوم على تطبيق أحدث التقنيات لتحقيق عوائد مجدية وكبيرة. ودور صندوق الاستثمارات العامة في مثل هذا النوع الاستثماري أساسي لتهيئة الأجواء الجاذبة لاستثمارات الآخرين لاحقا.
تحقيق هذه الرؤية سيذهب بالبلاد - بمشيئة الله وتوفيقه - إلى طفرة رابعة من نوع مختلف عما عهدناه. وهنا مزيد توضيح.
مر الاقتصاد السعودي، وهو حاليا الأكبر في الشرق الأوسط والعالم العربي، بثلاث طفرات كبرى. ومدة كل طفرة بضعة أعوام، وكان وقودها ارتفاع دخل البلاد النفطي ارتفاعا كبيرا. وفي كل طفرة تضاعف، بل زاد حجم الاقتصاد والدخل في كل طفرة مرتين أو أكثر. وجرّت كل طفرة تغيرات وتطورات وتغيرات في الاقتصاد والمجتمع السعودي. بدأت الأولى في نهاية عهد الملك عبدالعزيز، وبقيت أعوام في عهد الملك سعود. والثانية بدأت في نهاية عهد الملك فيصل، وبقيت أعوام في عهد الملك خالد. والثالثة بدأت في نهاية عهد الملك فهد، وبقيت أعوام في عهد الملك عبدالله - رحمهم الله تعالى.
كان الارتفاع القوي في دخل النفط هو مصدر تمويل الطفرات السابقة. لكن الدولة تبنت الرؤية الطموحة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان. رؤية تقوم على أمرين: الأول، تنمية الاقتصاد وترسيخ هذه التنمية. والثاني، تقليل جوهري مع الأعوام في اعتماد البلاد المفرط على دخل النفط.
هل تلوح الآن في الأفق طفرة رابعة؟
نعم، حديث ولي العهد الذي بدأت به المقال يعطي توقعا قويا بطفرة شاملة من نوع آخر. طفرة لا تعتمد على دخل النفط، بل على تنمية واستثمارات متنوعة شاملة، معتمدة أكثر على التقنية الحديثة أو ما يسمى الثورة الصناعية الرابعة.
كونها طفرة شاملة يعني تحقيق نمو اقتصادي في الشركات والقطاعات وموارد الدولة، وتحقيق نمو في دخل الفرد لا يشكل النفط مصدره الأول. بعبارة أخرى، طفرة لم تولد من طفرة نفطية، بل من طفرة استثمارية. طفرة استثمار إنتاجي ضخم في القطاعات غير النفطية.
النجاح يعتمد على تحقق متطلبات، وقبل وفوق ذلك كله، توفيق الله سبحانه. من المتطلبات نهضة القطاع الخاص نهضة تقوم على استثمار تنموي إنتاجي في القطاعين العام والخاص. والاستفادة من هذا الاستثمار وفق أسس راسخة.
بعبارة أخرى، عناصر نجاح هذه التنمية الإنتاجية حصول تغيرات من خلال تحولات تقودها وعمادها الاستثمار الإنتاجي. وهذا يعني إصلاحات جوهرية مؤثرة في سوق العمل وتنظيمات وقوانين الأعمال والقطاع الخاص، وفي المالية العامة وإدارتها. وبقدر النجاح في هذه الإصلاحات، بناء وتطبيقا، يكون النجاح في تحقيق تقدم في الإنتاجية، وتبعا في تنمية وتطور الاقتصاد الوطني غير النفطي.
تقليل الاعتماد على دخل النفط له مقابل وثمن. لكن علينا أن نتذكر دوما أنه لا نجاح دون ثمن ومخاطر وتضحيات. تعود الناس وتعودت أجهزة الدولة وتعود القطاع الخاص على أنماط سادت عشرات الأعوام، وليس من السهل تغييرها في أعوام قليلة. الحصول على قناعات من الناس يتطلب تحقيق نجاحات من البدايات. وهذا أمر ليس سهلا.
وهنا نقاط سريعة:
الأولى: تقليل الاعتماد على النفط، ليس بالضرورة عبر تخفيض حجم إنتاجنا، ومن ثم دخلنا، لكن باستخدام نسبة أكبر من عوائد النفط في إنفاق غير استهلاكي، بل في إنفاق تأثيره أقوى في تنمية الاقتصاد وتعميق تنوعه.
الثانية: مطالبة البعض بخدمة رفيعة راقية مقابل أي رسوم تفرضها الدولة على خدمات بعينها، هذه المطالبة لا تخلو من مغالطة. إن تحسين الخدمات والارتقاء بها أمر مطلوب، وينبغي بذل كل ما يمكن لتحقيقها. لكن لا يصلح ربط فرض رسوم باشتراط توفير خدمة خمسة نجوم، إلا إذا كانت الرسوم مرتفعة توازي تكلفة خدمة خمسة نجوم. ذلك أن الخدمة مهما نزل مستواها لها تكلفة. وللتشبيه وجود خدمة فندقية نجمة ونجمتين لا يعني أن الخدمة دون تكلفة، لكن بالتأكيد هي أقل من تكلفة فندق أرقى مستوى.
الثالثة: حصول طفرة يعني وجود إنفاق مرتفع. وهذا سيجر معه بلا شك قدرا من التضخم. ومن يطالب بتطوير الاقتصاد وتحسين الدخول والرواتب وزيادتها دون حصول تضخم، فهو يطالب بالمحال. المطلوب ضبط التضخم وتقليل أضراره قدر المستطاع، وليست محاولة منعه. ندعوه - سبحانه - أن يكلل جهود تنمية وتطوير الاقتصاد بالنجاح.
إنشرها