Author

تفاؤل في زمن استثنائي

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"عندما تضع الأمور في نصابها، حتى الأوقات السيئة يمكن أن تتحول لفرص"
أليكس زناردي، رياضي إيطالي عالمي
أسرع مات هانكوك وزير الصحة البريطاني، إلى تأكيد القول: إن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والصحية والاجتماعية، ستعود إلى ما كانت عليه قبل وباء كورونا المستجد. وكان شجاعا أن حدد الربيع المقبل موعدا لذلك. وهذا المسؤول لم يستند في قناعاته هذه، إلى استراتيجية سياسية اقتصادية، بل إلى ما ستتركه اللقاحات ضد هذا الوباء من إيجابيات على الساحة. ببساطة، هو يعتقد أن تلقي الناس اللقاح الناجع، سيحررهم من الانزواء والحجر القسري، ويدفعهم للعودة إلى ساحات العمل والإنتاج. ويبدو واضحا، أن المسؤولين في بقية الدول يشاركون هانكوك قناعاته هذه، على اعتبار أن اللقاح هو المخلص الوحيد من أزمة كورونا، بتداعياتها وانعكاساتها السلبية الخطيرة التي لا يزال العالم يشهدها، خصوصا في أعقاب تجدد الفيروس في بعض الدول المحورية عالميا، وفي مقدمتها بريطانيا.
لا شك أن اللقاح الذي ينتشر حاليا حول العالم سيؤدي دورا أساسيا في عودة الحياة إلى طبيعتها، وفي بداية التخلص من الآثار المرعبة التي عمت العام الماضي، وانتقلت إلى العام الجديد. إلا أن ذلك لا يضمن تعافيا اقتصاديا سريعا على الساحة العالمية، لأن الأمر يرتبط أولا بإزالة هذه الآثار، قبل الانطلاق في مسار التعافي والنمو. إنها عملية صعبة، بل يمكن وصفها بالمعقدة، لأسباب عديدة، في مقدمتها الأعباء التي تتكبدها الدول من جراء عمليات الإنقاذ الاقتصادية التي اعتمدتها اعتبارا من الشهر الثالث من عام 2020، واضطرت إلى تمديد آجالها عدة مرات، ولا سيما في ظل فقدان السيطرة على الوباء. تضاف إلى ذلك أعباء أخرى، تتعلق بحماية المجتمعات صحيا ومعيشيا، بما في ذلك تسديد الرواتب لموظفي القطاعين العام والخاص، ومنح القروض الميسرة جدا لقطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة، وغير ذلك من أشكال الدعم.
هذه العمليات الإنقاذية رفعت ديون الدول إلى مستويات تاريخية حقا، وهذا في حد ذاته هَم سيكون متوارثا لأجيال مقبلة. علما أن بعض الدول فضلت التضحية بمؤسسات بدلا من إنقاذها، لأن ذلك أقل تكلفة للخزانة العامة. لا داعي لاستعراض الأضرار التي تعرضت لها القطاعات كلها على مستوى العالم. فالجميع بات يعرفها. وتكفي الإشارة هنا إلى أن تجارة الخدمات التي تراوح بين الاتصالات والنقل والتمويل والتعليم والصحية والبحوث والسياحة، والخدمات المالية والبيئية، والاستشارات الإدارية والبريد. هذه التجارة تراجعت أكثر من 30 في المائة خلال العام الماضي. مع الإشارة هنا، إلى أن هناك قطاعات بأكملها خرجت من السوق، ليس فقط بفعل الأزمة التي خلفها الوباء، بل لأن المعايير الجديدة التي جاء بها هذا الوباء، أنهت وجودها.
وفي كل الأحوال الأجواء حول العالم يشوبها التفاؤل بصرف النظر عن مستويات هذه التفاؤل في هذه المنطقة أو تلك. ربما لن تعود إلى ما كانت عليه قبل كورونا بحلول الربيع المقبل، كما قال وزير الصحة البريطاني، إلا أن المؤشرات كلها تدل على أن التعافي سيحدث بصورة أو بأخرى هذا العام. ولا سيما على صعيد الانكماش العالمي الذي بلغ في بعض التقديرات أكثر من 10 في المائة، في حين وصل في عدد من الدول المتقدمة إلى أرقام مرتفعة مخيفة جدا. الشيء المهم الآن الخلاص من هذا الانكماش، حتى بنمو منخفض. دون أن ننسى أن النمو العالمي قبل كورونا لم يكن بالمستوى المطلوب دوليا، فضلا عن وجود معارك وحروب تجارية أثرت بصورة سلبية مختلفة في هذا النمو.
من الواضح أن دور الحكومات سيتواصل في هذه المرحلة بشكل مباشر وأكثر عمقا. والحقيقة تشير إلى أنه ليست هناك بدائل عن هذا الدور في مرحلة احتواء الانكماش الاقتصادي، والتحرك نحو تحقيق النمو المنشود. اللافت في الأزمة التي خلفها الوباء أنها رفعت حقا مستوى التعاون الدولي. وكأن هذا العالم كان يحتاج إلى أزمة كبرى من أجل ضمان حرارة التعاون. صحيح أن في بداية الأزمة شهد بعض المناطق نوعا من الحمائية والانغلاق، إلا أنها اكتشفت سريعا خطأ هذه الممارسات في وقت المحن. فلا يمكن أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه دون تعاون دولي واضح وصادق في آن معا. ما يعني أن الخلافات التجارية والاقتصادية عموما ستنزوي في فترة التعافي المنشود حول العالم.
ويبدو واضحا أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستسير في اتجاه التعاون، أكثر من إدارة الرئيس دونالد ترمب، الذي اعتمد استراتيجية الانزواء والتظلم في الوقت نفسه. لكن في النهاية، المؤشرات تدل على أن العام الجديد سيكون عام التحول في كثير من المفاهيم حتى السلوكيات السياسية والوطنية أيضا. كما أنه سيشهد بداية القضاء على الانكماش الاقتصادي، وربما نموا متواضعا مع نهايته. حتى لو لم يتحقق هذا النمو في عام 2021، فإن الانتصار على الانكماش في أشهره الممتدة، هو وحده انتصار كبير، يؤسس لمسار العودة ربما إلى أفضل ما كان عليه قبل الوباء، خصوصا أن في الأزمات تكمن الفرص أيضا.
إنشرها